من طرف فريق العمل الخميس 22 مايو 2014 - 12:55
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
من السلطان غياث الدين الدامغاني الى سلطان الجاوة
● [ ذكر وصولي إلى السلطان غياث الدين الدامغاني ] ●
ولما وصلنا إلى قرب من منزله بعث بعض الحجاب لتلقينا، وكان قاعداً في برج خشب، وعادتهم بالهند أن لا يدخل أحد على السلطان دون خف. ولم يكن عندي خف، فأعطاني بعض الكفار خفاً. وكان هنالك من المسلمين جماعة، فعجبت من كون الكافر كان أتم مروءة منهم. ودخلت على السلطان، فأمرني بالجلوس، ودعا القاضي الحاج صدر الزمان بهاء الدين. وأنزلني في جواره في ثلاثة من الأخبية، وهم يسمونها الخيام. وبعث بالفرش وبطعامهم، وهو الأرز واللحم. وعادتهم هنالك أن يسقوا اللبن الرائب على الطعام. كما يفعل ببلادنا. ثم اجتمعت به بعد ذلك، وألقيت له أمر جزائر ذيبة المهل، وأن يبعث الجيش إليها. فأخذ في ذلك بالعزم، وعين المراكب لذلك. وعين الهدية لسلطانتها، والخلع للوزراء والأمراء، والعطايا لهم. وفوض إلي في عقد نكاحه مع أخت السلطانة، وأمر بوسق ثلاثة مراكب بالصدقة لفقراء الجزائر، وقال لي: يكون رجوعك بعد خمسة أيام. فقال له قائد البحر سرلك: لا يمكن السفر إلى الجزائر إلا بعد ثلاثة أشهر من الآن. فقال لي السلطان: أما إذا كان الأمر هكذا، فامض إلى فتن حتى نقضي هذه الحركة، وتعود إلى حضرتنا مترة، ومنها تكون الحركة. فأقمت معه بخلال ما بعثت إلى الجواري والأصحاب.
● [ ذكر ترتيب رحيله وشنيع فعله ] ●
في قتل النساء والولدان
وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب، بحيث لا يسلكها أحد. فأمر السلطان أن يكون مع كل واحد ممن في الجيش من كبير وصغير قدوم لقطع ذلك. فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه، فقطعوا تلك الأشجار من غدوة النهار إلى الزوال. ثم يؤتى بالطعام فيأكل جميع الناس، طائفة بعد أخرى، ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشي. وكل من وجدوه من الكفار في الغيضة أسروه، وصنعوا خشبة محددة الطرفين، فجعلوها على كتفيه يحملها. ومعه امرأته وأولاده. ويؤتى بهم إلى المحلة. وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سوراً من خشب، يكون له أربعة أبواب، ويسمونه الكتكر " بفتح الكافين وسكون التاء المعلوه وآخره راء "، ويصنعون على دار السلطان كتكراً ثانياً، ويصنعون خارج الكتكر الأكبر مصاطب، ارتفاعها نحو نصف قامة، ويوقدون عليها النار بالليل، ويبيت عندها العبيد والمشاءون، ومع كل واحد منهم حزمة من رقيق القصب. فإذا أتى أحد من الكفار ليضربوا على المحلة ليلاً، أوقد كل واحد منهم الحزمة التي بيده، فعاد الليل شبه النهار، لكثرة الضياء. وخرجت الفرسان في اتباع الكفار، فإذا كان عند الصباح قسم الكفار المأسورون بالأمس أربعة أقسام، وأتي إلى كل باب من أبواب الكتكر بقسم منهم. فركزت بالخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده، ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم، ثم تذبح نساؤهم، ويربطن بشعورهن إلى تلك الأخشاب، ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن، ويتركون هنالك. وتنزل المحلة، ويشتغلون بقطع غيضة أخرى، ويصنعون بمن أسروه كذلك. وذلك أمر شنيع، ما علمته لأحد من الملوك. وبسببه عجل الله حينه. ولقد رأيته يوماً، والقاضي عن يمينه، وأنا عن شماله، وهو يأكل معنا، وقد أتي بكافر معه امرأته وولد سنه سبع، فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه. ثم قال لهم: وزن أو بسر أو، معناه: وابنه وزوجته، فقطعت رقابهم. وصرفت بصري عنهم، فلما قمت وجدت رؤوسهم مطروحة بالأرض. وحضرت عنده يوماً، وقد أتي برجل من الكفار، فتكلم بما لم أفهمه. فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم، فبادرت القيام، فقال لي: إلى أين ? فقلت: أصلي العصر. ففهم عني وضحك وأمر بقطع يديه ورجليه. فلما عدت وجدته متشحطاً في دمائه.
● [ ذكر هزيمته للكفار ] ●
وهي من أعظم فتوحات الإسلام
وكان فيما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بلال ديو " بفتح الباء الموحدة ولام وألف ولام ثانية ودال مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة واو مسكن "، وهو من كبار سلاطين الكفار، يزيد عسكره على مائة ألف، ومعه نحو عشرين ألفاً من المسلمين، أهل الدعارة وذوي الجنايات والعبيد الفارين، فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر، وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف، منهم النصف من الجياد، والنصف الثاني لا خير فيهم، ولا غناء عندهم. فلقوه بظاهر مدينة كبان، فهزمهم. ورجعوا إلى حضرة مترة، ونزل الكافر على كبان، وهي من أكبر مدنهم وأحصنها، وحاصرها عشرة أشهر، ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوماً. فبعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان، ويتركوا له البلد. فقالوا له: لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك. فوعدهم إلى تمام أربعة عشر يوماً. فكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم، فقرأ كتابهم على الناس يوم الجمعة، فبكوا، وقالوا: نبيع أنفسنا من الله. فإن الكافر إن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا، فالموت تحت السيوف أولى بنا. فتعاهدوا على الموت، وخرجوا من الغد، ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل، وهي علامة من يريد الموت. وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة، وكانوا ثلاثمائة. وجعلوا على الميمنة سيف الدين بهادور، وكان فقيهاً ورعاً شجاعاً، وعلى الميسرة الملك محمد السلحدار. وركب السلطان في القلب ومعه ثلاث آلاف، وجعل الثلاثة الآلاف الباقين ساقة لهم، وعليهم أسد الدين كيخسرو الفارسي. وقصدوا محلة الكافر عند القايلة، وأهلها على غرة، وخيلهم في المرعى. فأغاروا عليها. وظن الكفار أنهم سراق. فخرجوا إليهم على غير تعبية، وقاتلوهم. فوصل السلطان غياث الدين، فانهزم الكفار شر هزيمة، وأراد سلطانهم أن يركب، وكان ابن ثمانين سنة، فأدركه ناصر الدين ابن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده، فأراد قتله، ولم يعرفه. فقال له أحد غلمانه: هو السلطان. فأسره وحمله إلى عمه، فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل، وكان يعده السراح. فلما استصفى ما عنده، ذبحه وسلخه، وملأ جلده بالتبن. فعلق على سور مترة، ورأيته بها معلقاً، ولنعد إلى كلامنا فنقول: ورحلت عن المحلة، فوصلت إلى مدينة فتن " بفتح الفاء والتاء والمثناة المشددة ونون "، وهي كبيرة حسنة على الساحل، ومرساها عجيب قد صنعت فيه قبة خشب كبيرة قائمة على الخشب الضخام، يصعد إليها على طريق خشب مسقف، فإذا جاء العدو ضموا إليها الأجفان التي تكون بالمرسى، وصعدها الرجال والرماة، فلا يصيب العدو فرصة. وبهذه المدينة مسجد حسن مبني بالحجارة، وبها العنب الكثير والرمان الطيب. ولقيت الشيخ الصالح محمداً النيسابوري أحد الفقراء المولهين الذين يسدلون شعورهم على أكتافهم، ومعه سبع رباه، يأكل مع الفقراء ويقعد معهم وكان معه نحو ثلاثين فقيراً، لأحدهم غزالة تكون مع الأسد في موضع واحد فلا يعرض لها. وأقمت بمدينة فتن، وكان السلطان غياث الدين قد صنع له أحد الجوكية حبوباً لقوة على الجماع. وذكروا أن من جملة أخلاطها برادة الحديد، فأكل منها فوق الحاجة فمرض، ووصل إلى فتن. فخرجت إلى لقائه، واهديت له هدية. فلما استقر بها بعث عن قائد البحر خواجه سرور فقال له: لا تشتغل بسوى المراكب المعينة للسفر إلى الجزائر. وأراد أن يعطيني قيمة الهدية فأبيت، ثم ندمت، لأنه مات. فلم آخذ شيئاً. وأقام بفتن نصف شهر، ثم رحل إلى حضرته. وأقمت أنا بعده نصف شهر، ثم رحلت إلى حضرته، وهي مدينة متره " بضم الميم وسكون التاء المعلوة وفتح الراء "، مدينة كبيرة متسعة الشوارع. وأول من اتخذها حضرة صهري السلطان الشريف جلال الدين أحسن شاه. وجعلها شبيهة بدهلي، وأحسن بناءها. ولما قدمتها وجدت بها وباء يموت منه الناس موتاً ذريعاً، فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه أو ثالثه، وإن أبطأ موته فإلى الرابع. فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضاً أو ميتاً. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة، فماتت في يوم آخر. ولقد جاءت إلي في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه، ومعها ابن لها سنه ثمانية أعوام، نبيل كيس فطن. فشكت ضعف حالها، فأعطيتهما نفقة، وهما صحيحان سويان. فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها كفناً، وإذا به قد توفي من حينه. وكنت أرى بمشور السلطان حين مات المئتين من الخدم اللاتي أتي بهن لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان، وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطلن مترة، وجد أمه وامرأته وولده مرضى. فأقام بالمدينة ثلاثة أيام، ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها، كانت عليه كنيسة للكفار. وخرجت إليه في يوم خميس، فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي. فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرحون، ويموج بعضهم في بعض. فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك، فكان الولد هو الميت، ولم يكن له سواه. فكان موته مما زاد في مرضه. وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان.
● [ ذكر وفاة السلطان ] ●
وولاية ابن أخيه وانصرافي عنه
وفي الخميس الثالث توفي السلطان غياث الدين، وشعرت بذلك، فباردت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة. ولقيت ناصر الدين ابن أخيه الوالي بعده خارجاً إلى المحلة، قد وجه عنه، إذا ليس للسلطان ولد. فطلب إلي الرجوع معه، فأبيت. وأثر ذلك في قلبه. وكان ناصر الدين هذا. خديماً بدهلي قبل أن يملك عمه. فلما ملك عمه هرب في زي الفقراء إليه، فكان من القدر ملكه بعده. ولما بويع، مدحته الشعراء، فأجزل لهم العطاء وأول من قام منشداً القاضي صدر الزمان، فأعطاه خمسمائة دينار وخلعة، ثم الوزير المسمى بالقاضي، فأعطاه ألفي دينار دراهم، وأعطاني أنا ثلاثمائة دينار وخلعة. وبث الصدقات في الفقراء والمساكين. ولما خطب الخطيب أول خطبة باسمه، نثرت عليه الدنانير والدراهم في أطباق الذهب والفضة. وعمل عزاء السلطان غياث الدين فكانوا يختمون القرآن على قبره كل يوم، ثم يقرأ العشارون، ثم يؤتى بالطعام فيأكل الناس، ثم يعطون الدراهم، كل إنسان على قدره. وأقاموا على ذلك أربعين يوماً. ثم يفعلون ذلك في مثل يوم وفاته من كل سنة. وأول ما بدأ به السلطان ناصر الدين أن عزل وزير عمه، وطلبه بالأموال. وولي الوزارة الملك بدر الدين الذي بعثه عمه إلي وأنا بفتن ليتلقاني، فتوفي سريعاً. فولي الوزارة خواجه سرور قائد البحر، وأمر أن يخاطب بخواجه جهان، كما يخاطب الوزير بدهلي. ومن خاطبه بغير ذلك غرم دنانير معلومة. ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوج بنت السلطان غياث الدين، وتزوجها بعده. وبلغه أن الملك مسعوداً زاره في محبسه قبل موته، فقتله أيضاً، وقتل الملك بهادور، وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء، وأمر لي بجميع ما كان عينه عمه من المراكب برسم الجزائر. ثم أصابنتي الحمى القاتلة هنالك، فظننت أنها القاضية. وألهمني الله إلى التمر الهندي، وهو هنالك كثير، فأخذت نحو رطل منه، وجعلته في الماء ثم شربته. فأسهلني ثلاثة أيام، وعافاني الله من مرضي. فكرهت تلك المدينة، وطلبت الإذن في السفر، فقال لي السلطان: كيف تسافر ولم يبق لأيام السفر إلى الجزائر غير شهر واحد ? أقم حتى نعطيك جميع ما أمر لك به خوند عالم. فأبيت، وكتب لي إلى فتن لأسافر في أي مركب أردت. وعدت إلى فتن، فوجدت ثمانية من المراكب تسافر إلى اليمن، فسافرت في أحدها، ولقينا أربعة أجفان، فقاتلتنا يسيراً ثم انصرفت. ووصلنا إلى كولم، وكان في بقية مرض، فأقمت بها ثلاثة أشهر. ثم ركبت في مركب بقصد السلطان جمال الدين الهنوري، فخرج علينا الكفار بين هنور وفاكنور.
● [ ذكر سلب الكفار لنا ] ●
ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنور وفاكنور، خرج علينا الكفار في يوم اثني عشر مركباً حربياً، وقاتلوها قتالاً شديداً، وتغلبوا علينا، فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أدخره للشدائد، وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان، وأخذوا ثيابي والزرادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء، ولم يتركوا لي ساتراً خلا السراويل، وأخذوا ما كان لجميع الناس، وأنزلونا بالساحل. فرجعت إلى قالقوط، فدخلت بعض المساجد. فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب، وبعث القاضي بعمامة، وبعث بعض التجار بثوب آخر. وتعرفت هنالك بتزوج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين، وبأن زوجتي التي تركتها حاملاً ولدت ولداً ذكراً فخطر لي السفر إلى الجزائر. وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله، ففتحت المصحف، فخرج لي " تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا " فاستخرت الله، وسافرت. فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل، ونزلت منها بكلنوس. فأكرمني واليها عبد العزيز المقدوشاوي وأضافني وجهز لي كندرة. ووصلت بعد ذلك إلى هللي، وهي الجزيرة التي تخرج السلطانة وأخواتها إليها برسم التفرج والسباحة، ويسمون ذلك التتجر. ويلعبون في المراكب، ويبعث لها الوزراء والأمراء بالهدايا والتحف متى كانت بها. وجدت بها أخت السلطانة وزوجها الخطيب محمد ابن الوزير جمال الدين وأمها التي كانت زوجتي. فجاء الخطيب إلي، وأتوا بالطعام. ومر بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي. فسأل عن حالي، وعمن قدم معي. وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي، وكان سنه نحو عامين. وأتته أمه تشكو من ذلك. فقال لها: أنا لا أمنعه من حمل ولده. وصادرني في دخول الجزيرة، وأنزلني بدار تقابل برج قصره، ليتطلع على حالي. وبعث إلي بكسوة كاملة، وبالتنبول وماء الورد على عادتهم. وجئت بثوبي حرير للرمي عند السلام، فأخذوهما، ولم يخرج الوزير إلي ذلك اليوم. وأتي إلي بولدي فظهر لي أن إقامته معهم خير له. فرددته إليهم، وأقمت خمسة أيام وظهر لي أن تعجيل السفر أولى. فطلبت الإذن في ذلك، فاستدعاني الوزير، ودخلت عليه وأتوني بالثوبين اللذين أخذوهما مني، فرميتهما عند السلام على العادة. وأجلسني إلى جانبه، وسألني عن حالي، وأكلت معه الطعام، وغسلت يدي معه في الطست، وذلك شيء لا يفعله مع أحد. وأتوا بالتنبول وانصرفت، وبعث إلي بأثواب وبساتي من الودع، وأحسن في أفعاله وأجمل. وسافرت، فأقمنا على ظهر البحر ثلاثاً وأربعين ليلة، ثم وصلنا إلى بلاد بنجالة " وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم معقود وألف ولام مفتوح "، وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز. ولم أر في الدنيا أرخص أسعاراً منها، لكنها مظلمة. وأهل خراسان يسمونها دوزخست " دوزخ " بور " بر " نعمة، معناه جهنم ملأى بالنعم. رأيت الأرز يباع في أسواقها خمسة وعشرين رطلاً دهلية بدينار فضي، والدينار الفضي هو ثمانية دراهم، ودرهمهم كالدرهم النقرة سواء، والرطل الدهلي عشرون رطلاً مغربية. وسمعتهم يقولن: إن ذلك غلاء عندهم. وحدثني محمد المصمودي المغربي، وكان من الصالحين وسكن هذا البلد قديماً ومات عندي بدهلي، أنه كانت له زوجة وخادم، فكان يشتري قوت ثلاثتهم في السنة بثمانية رداهم، وأنه كان يشتري الأرز في قشره بحساب ثمانين رطلاً دهلية بثمانية دراهم، فإذا دقه خرج منه خمسون رطلاً صافية، وهي عشرة قناطير. ورأيت البقرة تباع بها للحلب بثلاثة دنانير فضية وبقرهم الجواميس، ورأيت الدجاج السمان تباع بحساب ثمانٍ بدرهم واحد، وفراخ الحمام، تباع خمسة عشر بدرهم، ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين. ورطل السكر بأربعة دراهم، وهو رطل دهلي ورطل الجلاب بثمانية دراهم ورطل السمن بأربعة دراهم ورطل السيرج بدرهمين، ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيد الذي ذرعه ثلاثون ذراعاً يباع بدينارين، ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب الواحد، وهو ديناران ونصف دينار من الذهب المغربي، واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة، وكان لها جمال بارع. واشترى بعض أصحابي غلاماً صغير السن حسناً اسمه لؤلؤ بدينارين من الذهب. وأول مدينة دخلناها من بلاد بنجالة مدينة سدكاوان، وضبط اسمها " بضم السين وسكون الدال المهملين وفتح الكاف والواو وآخره نون "، وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر الأعظم، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود، ونهر الجون، ويصبان في البحر. ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد اللكنوتي.
● [ ذكر سلطان بنجالة ] ●
وهو السلطان فخر الدين الملقب بفخره " بالفاء والخاء المعجم والراء "، سلطان فاضل محب في الغرباء، وخصوصاً الفقراء والمتصوفة. وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن، وهو الذي ولي ولده معز الدين الملك بدهلي، فتوجه لقتاله والتقيا بالنهر، وسمي لقاؤهما لقاء السعدين، وقد ذكرنا ذلك، وأنه ترك الملك لولده وعاد إلى بنجالة، فأقام بها إلى أن توفي، وولي ابنه شمس الدين إلى أن توفي فولي ابنه شهاب الدين إلى أن غلب عليه أخوه غياث الدين بهادوربور، فاستنصر شهاب الدين بالسلطان غياث الدين تغلق فنصره، وأخذ بهادوربور أسيراً، ثم أطلقه ابنه محمد لما ملك، على أن يقاسمه ملكه، فنكث عليه، فقاتله حتى قتله، وولي على هذه البلاد صهراً، له فقتله العسكر، واستولى على ملكها علي شاه، وهو إذ ذاك ببلاد اللكنوتي. فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين، وهو مولى لهم، خالف بسكاوان وبلاد بنجالة، واستقل بالملك. واشتدت الفتنة بينه وبين علي شاه. فإذا كانت أيام الشتاء والوحل، أغار فخر الدين على بلاد اللكنوتي في البحر لقوته فيه، وإذا عادت الأيام التي لا مطر فيها أغار علي شاه على بنجالة في البر لقوته فيه.
حكاية
وانتهى حب الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائباً عنه في الملك بسدكاوان، وكان يسمى شيدا " بفتح الشين المعجم والدال المهمل بينهما ياء آخر الحروف "، وخرج إلى قتال عدو له. فخالف عليه شيدا، وأراد الاستبداد بالملك، وقتل ولد السلطان فخر الدين، ولم يكن له ولد غيره. فعلم بذلك فكر عائداً إلى حضرته، ففر شيدا ومن اتبعه إلى مدينة سنرهكاوان، وهي منيعة. فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره، فخاف أهلها على أنفسهم، فقبضوا على شيدا وبعثوا إلى عسكر السلطان، فكتبوا إليه بأمره. فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه. وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء. ولما دخلت سدكاوان لم أر سلطانها، ولا لقيته، وعلمت أنه مخالف على ملك الهند. فخفت عاقبة ذلك، وسافرت من سدكاوان بقصد جبال كامرو، وهي " بفتح الكاف والميم وضم الراء ". وبينها وبين سدكاوان مسيرة شهر، وهي جبال متسعة متصلة بالصين، وتتصل أيضاً ببلاد التبت حيث غزلان المسك. وأهل هذا الجبل يشبهون الترك، ولم قوة على الخدمة. والغلام منهم يساوي أضعاف ما يساويه الغلام من غيرهم. وهم مشهورون بمعاناة السحر والاشتغال به. وكان قصدي بالمسير إلى هذه الجبال لقاء ولي من الأولياء بها وهو الشيخ جلال الدين التبريزي.
● [ ذكر الشيخ جلال الدين ] ●
وهذا الشيخ من كبار الأولياء وأفراد الرجال. له الكرامات الشهيرة والمآثر العظيمة، وهو من المعمرين. أخبرني رحمه الله أنه أدرك الخليفة المعتصم المستعصم بالله العباسي ببغداد، وكان بها حين قتله، وأخبرني أصحابه بعد هذه المدة أنه مات، وهو ابن مائة وخمسين، وأنه كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم، ولا يفطر إلا بعد مواصلة عشر، وكانت له بقرة يفطر على حليبها، ويقوم الليل كله. وكان نحيف الجسم طوالاً خفيف العارضين. وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال، ولذلك أقام بينهم.
كرامة له
أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد، وأوصاهم بتقوى الله، وقال لهم: إني أسافر عنكم غداً إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو، فلما صلى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها، ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبراً محفوراً عليه الكفن والحنوط، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه به، رحمه الله تعالى.
كرامة له أيضاً
ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه، فأخبروي أن الشيخ قال للفقراء الذين معه: قد جاءكم سائح من المغرب فاستقبلوه، وأنهم أتوا لذلك بأمر الشيخ. ولم يكن عنده علم من أمري، وإنما كوشف به، وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زبارته، ويأتون بالهدايا والتحف فيأكل منها الفقراء والواردون. وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه، ولما دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري، فأخبرته. فقال لي: أنت مسافر العرب. فقال له من حضر من أصحابه: والعجم يا سيدنا. فقال: والعجم، فأكرموه. فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام.
● [ حكاية عجيبة في ضمنها كرامات له ] ●
ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز فأعجبتني، وقلت في نفسي: ليت الشيخ أعطانيها. فلما دخلت عليه للوداع، قام إلى جانب الغار وجرد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه، ولبس مرقعة، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية، وإنما لبسها عند قدومي، وأنه قال لهم هذه الفرجية يطلبها المغربي، ويأخذها منه سلطان كافر، ويعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي، وهي له وبرسمه كانت. فلما أخبرني الفقراء بذلك، قلت لهم: لقد حصلت لي بركة الشيخ، بأن كساني لباسه. وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم، وانصرفت عن الشيخ. فاتفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين، وانتهيت إلى مدينة الخنسا. فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام، وكانت الفرجية علي. فبينا أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم. فوقع بصره علي فاستدعاني وأخذ بيدي وسألني عن مقدمي، ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه فأردت الانفصال، فمنعني وأدخلني على السلطان، فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته، ونظر إلى الفرجية فاستحسنها. فقال لي الوزير: جردها، فلم يمكني خلاف ذلك. فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة. وتغير خاطري لذلك. ثم ذكرت قول الشيخ إنه يأخذها سلطان كافر. فطال عجبي من ذلك. ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجي فوجدته يقرأ، والفرجية عليه بعينها، فعجبت من ذلك وقلبتها بيدي، فقال لي: لم تقلبها وأنت تعرفها ? فقلت له: نعم، هي التي أخذها مني سلطان الخنسا. فقال لي هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي. وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان. ثم أخرج لي الكتاب فقرأته. وعجبت من صدق يقين الشيخ، وأعلمته بأول الحكاية. فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله، وهو يتصرف في الكون، وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى.
ثم قال: بلغني أنه كان يصلي الصبح كل يوم بمكة، وأنه يحج كل عام. لأنه كان يغيب على الناس يومي عرفة والعيد، فلا يعرف أين ذهب. ولما وادعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حبنق " وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. وسكون النون وقاف "، وهي من أكبر المدن وأحسنها. يشقها النهر الذي ينزل من جبال كامرو، ويسمى النهر الأزرق، ويسافر فيه إلى بنجالة وبلاد اللكنوتي، وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة، كما هي على نيل مصر. وأهلها كفار تحت الذمة، يؤخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك. وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوماً بين القرى والبساتين فكأنما نمشي في سوق من الأسواق، وفيه من المراكب ما لا يحصى كثرة، وفي كل مركب منها طبل، فإذا التقى المركبان ضرب كل واحد طبله، وسلم بعضهم على بعض. وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يؤخذ بذلك النهر من الفقراء نول، وأن يعطى الزاد لمن لا زاد له منهم. وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطي نصف دينار. وبعد خمسة عشر يوماً من سفرنا في النهر، كما ذكرناه، وصلنا إلى مدينة سنرهكاوان وسنر " بضم السين المهمل والنون وسكون الراء "، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها. ولما وصلناها وجدنا بها جنكاً يريد السفر إلى بلاد الجاوة. وبينهما أربعون يوماً. فركبنا فيه وصلنا بعد خمسة عشر يوماً إلى بلاد البرهنكار الذين أفواههم كأفواه الكلاب " وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء "، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقفة بحشيش الأرض على شاطئ البحر. وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير. ورجالهم على مثل صورنا إلا أن أفواهم كأفواه الكلاب. وأما نساؤهم فلسن كذلك، ولهن جمال بارع. ورجالهم عرايا لا يستترون. إلا أن الواحد يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة في بطنه، وتستتر نساؤهم بأوراق الشجر. ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة والجاوة ساكنون في حارة على حدة. أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم، لا يستترون بذلك. ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأة فما دون ذلك أو فوقه، وأنهم لا يزنون. وإذا زنا الرجل منهم فحد الرجل أن يصلب حتى يموت، أو يؤتى بصاحبه أو عبده فيصلب عوضاً منه، ويسرح هو. وحد المرأة أن يأمر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحد بعد واحد بحضرته حتى تموت، ويرمون بها في البحر. ولأجل ذلك لا يتركون أحداً من أهل المراكب ينزل إليهم، إلا إن كان من المقيمين عندهم. وإنما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل، ويسوقون إليهم الماء على الفيلة، لأنه بعيد من الساحل. ولا يتركونهم لاستقائه خوفاً على نسائهم، لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان. والفيلة كثيرة عندهم، ولا يسعها أحد غير سلطانهم. ثم يشترى منهم بالأثواب. ولهم كلام غريب لايفقهه إلا من ساكنهم، وأكثر التردد إليهم. ولما وصلنا إلى ساحلهم أتوا إلينا في قوارب صغار، كل قارب من خشبة واحدة منحوتة، وجاءوا بالموز والأرز والتنبول والفوفل والسمك.
● [ ذكر سلطانهم ] ●
وأتى إلينا سلطانهم رأكباً على فيل، عليه شبه بردعة من الجلود، ولباس السلطان ثوب من جلود المعزى، وقد جعل الوبر إلى خارج، وفوق رأسه ثلاث عصائب من الحرير ملونات، وفي يده حربة من القصب، ومعه نحو عشرين من أقاربه على الفيلة. فبعثنا إليه هدية من الفلفل والزنجبيل والقرفة والحوت الذي يكون بجزائر ذيبة المهل وأثواباً من بنجالية. وهم لا يلبسونها إنما يكسونها الفيلة في أيام عيدهم. ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها. ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحراً يهيج به البحر، فيهلك أو يقارب الهلاك.
حكاية
واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرساهم أن غلاماً لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلاً، وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل. وعلم بذلك زوجها، فجاء في جمع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به. فحملا إلى سلطانهم، فأمر بالغلام فقطعت أنثياه وصلب. وأمر المرأة فجامعها الناس حتى ماتت. ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى، وقال: إنا لا نجد بداً من إمضاء أحكامنا. ووهب لصاحب المركب غلاماً عوض الغلام المطلوب، ثم سافرنا عن هؤلاء. وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلنا إلى جزيرة الجاوة " بالجيم "، وهي التي ينسب إليها اللبان الجاوي. رأيناها على مسيرة نصف يوم. وهي خضرة نضرة.وأكثر أشجارها النارجيل والفوفل والقرنفل والعود الهندي والشكي والبركي والعنبة والجمون والنارنج الحلو وقصب الكافور. وبيع أهلها وشراؤهم بقطع قصدير وبالذهب الصيني التبر غير المسبوك. والكثير من أفاويه الطيب التي ببلاد الكفار إنما هو منها، وأما ببلاد المسلمين فهو أقل من ذلك. ولما وصلنا المرسى خرج إلينا أهلها في مراكب صغار، ومعهم جوز النارجيل والموز والعنبة والسمك. وعادتهم أن يهدوا ذلك للتجار، فيكافئهم كل إنسان على قدره. وصعد إلينا أيضاً نائب صاحب البحر، وشاهد من معنا من التجار، وأذن لنا في النزول إلى البر. فنزلنا إلى البندر، وهي قرية كبيرة على ساحل البحر، بها دور اسمها السرحى " بفتح السين المهمل وسكون الراء وفتح الحاء المهمل "، وبينها وبين البلد أربعة أميال. ثم كتب بهروز نائب صاحب البحر إلى السلطان فعرفه بقدومي، فأمر الأمير دولسة بلقائي، والقاضي الشريف أمير سيد الشيرازي، وتاج الدين الأصفهاني، وسواهم من الفقهاء، فخرجوا لذلك وجاءوا بفرس من مراكب السلطان، وأفراس سواه فركبت، وركب أصحابي، ودخلنا إلى حضرة السلطان، وهي مدينة سمطرة " بضم السين المهمل وسكون الطاء وفتح الراء "، مدينة حسنة كبيرة، عليها سور خشب وأبراج خشب.
● [ ذكر سلطان الجاوة ] ●
وهو السلطان الملك الظاهر من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعي المذهب محب في الفقهاء يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة وهو كثير الجهاد والغزو ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه وأهل بلاده شافعية محبون في الجهاد يخرجون معه تطوعاً وهم غالبون على من يليهم من الكفار والكفار يعطونهم الجزية على الصلح.
● [ ذكر دخولنا إلى داره وإحسانه إلينا ] ●
ولما قصدنا إلى دار السلطان وجدنا بالقرب منه رماحاً مركوزة على جانبي الطريق، وهي علامة على نزول الناس، فلا يتجاوزها من كان راكباً. فنزلنا عندها ودخلنا المشور، فوجدنا نائب السلطان. وهو يسمى عمدة الملك. فقام إلينا وسلم علينا، وسلامهم بالمصافحة وقعدنا معه. وكتب بطاقة إلى السلطان يعلمه بذلك، وختمها ودفعها لبعض الفتيان. فأتاه الجواب على ظهرها. ثم جاء أحد الفتيان ببقشة والبقشة " بضم الباء الموحدة وسكون القاف وفتح الشين المعجم "، هي السبنية فأخذها النائب بيده، وأخذ بيدي وأدخلني إلى دويرة يسمونها فردخانة، على وزن زردخانة " إلا أن أولها فاء "، وهي موضع راحته بالنهار فإن العادة أن يأتي نائب السلطان إلى المشور بعد الصبح، ولا ينصرف إلا بعد العشاء الآخرة، وكذلك الوزراء والأمراء الكبار. وأخرج من البقشة ثلاث فوط: إحداهما من خالص الحرير، والأخرى حرير وقطن، وأخرى حرير وكتان. وأخرج ثلاثة أثواب، يسمونها التحتانيات من جنس الفوط، وأخرج ثلاثة من الثياب مختلفة الأجناس، تسمى الوسطانيات، وأخرج ثلاثة أثواب من الأرمك، أحدها أبيض، وأخرج ثلاث عمائم. فلبست فوطة منها عوضاً عن السراويل على عادتهم، وثوباً من كل جنس. وأخذ أصحابي ما بقي منها.
ثم جاءوا بالطعام، أكثره الأرز، ثم أتوا بنوع من الفقاع، ثم أتوا بالتنبول، وهو علامة الانصراف، فأخذناه وقمنا، وقام النائب لقيامنا، وخرجنا عن المشور، فركبنا وركب النائب معنا. وأتوا بنا إلى بستان عليه حائط خشب، وفي وسطها دار بناؤها بالخشب، مفروشة بقطائف قطن يسمونها المخملات " بالميم والخاء المعجم "، ومنها مصبوغ وغير مصبوغ.
وفي البيت أسره من الخيزران، فوقها مضربات من الحرير، ولحف خفاف، ومخاد، يسمونها البوالشت، فجلسنا بالدار، ومعنا النائب. ثم جاء الأمير دولسة بجاريتين وخادمين، وقال لي: يقول لك السلطان هذا على قدرنا، لا على قدر السلطان محمد، ثم خرج النائب، وبقي الأمير دولسة عندي. وكانت بيني وبينه معرفة. لأنه كان ورد رسولاً على السلطان بدهلي. فقلت له: متى تكون رؤية السلطان ? فقال لي: إن العادة عندنا أن لا يسلم القادم على السلطان. إلا بعد ثلاثة أيام ليذهب عنه تعب السفر. ويثوب إليه ذهنه. فأقمنا ثلاثة أيام، يأتي إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتأتينا الفواكه والطرف مساء وصباحاً. فلما كان اليوم الرابع، وهو يوم الجمعة، أتاني الأمير دولسة فقال لي: يكون سلامك على السلطان بمقصورة الجامع بعد الصلاة. فأتيت الجامع وصليت به الجمعة مع حاجبه قيران " بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف والراء "، ثم دخلت إلى السلطان، فوجدت القاضي أمير سيد، والطلبة عن يمينه وشماله. فصافحني وسلمت عليه، وأجلسني عن شماله، وسألني عن السلطان محمد، وعن أسفاري فأجبته، وعاد إلى المذاكرة في الفقه على مذهب الإمام الشافعي. ولم يزل كذلك إلى صلاة العصر، فلما صلاها دخل بيتاً هنالك، فنزع الثياب التي كانت عليه، وهي ثياب الفقهاء، وبها يأتي الجامع يوم الجمعة ماشياً، ثم لبس ثياب الملك، وهي الأقبية من الحرير والقطن.
● [ ذكر انصرافه إلى داره وترتيب السلام عليه ] ●
ولما خرج من الجامع وجد الفيلة والخيل على بابه، والعادة عندهم أنه إذا ركب السلطان الفيل، ركب من معه الخيل. وإذا ركب الفرس، ركبوا الفيلة. ويكون أهل العلم عن يمينه، فركب ذلك اليوم على الفيل، وركبنا الخيل وسرنا معه إلى المشور. فنزلنا حيث العادة، ودخل السلطان راكباً وقد اصطف في المشور الوزراء والأمراء والكتاب وأرباب الدولة ووجوه العسكر صفوفاً، فأول الصفوف صف الوزراء والكتاب، ووزراؤه أربعة، فسلموا عليه وانصرفوا إلى موضع وقوفهم، ثم صف المراء فسلموا وموضوا إلى مواقفهم. وكذلك تفعل كل طائفة، ثم صف الشارفاء والفقهاء، ثم صف الندماء والحكماء والشعراء، ثم صف وجوه العسكر، ثم صف الفتيان والمماليك. ووقف السلطان على فيه إزاء قبة الجلوس، ورفع فوق رأسه شطر مرصع، وجعل عن يمينه خمسون فيلاً مزينة، وعن شماله مثلها، وعن يمينه أيضاً مائة فرس، وعن شماله مثلها، وهي خيل النوبة، ووقف بين يديه خواص الحجاب. ثم أتى أهل الطرب من الرجال فغنوا بين يديه، وأتى بخيل مجللة بالحرير، لها خلاخيل ذهب وأرسان حرير مزركشة، فرقصت الخيل بين يديه. فعجبت من شأنه، وكنت رأيت ذلك عند ملك الهند. ولما كان عند الغروب دخل السلطان إلى داره، وانصرف الناس إلى منازلهم.
● [ ذكر خلاف ابن أخيه وسبب ذلك ] ●
وكان له ابن أخ متزوج ببنته، فولاه بعض البلاد. وكان الفتى بتعشق بنتاً لبعض الأمراء، ويريد تزوجها. والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس أمير أو سوقي أو سواه بنت قد بلغت مبلغ النكاح، فلابد أن يستأمر للسلطان في شأنها، ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها، فإن أعجبته صفتها تزوجها، وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن شاءوا. والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم، لما يحوزون به من الجاه والشرف. ولما استأمر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان، بعث السلطان من نظر إليها وتزوجها. واشتد شغف الفتى بها ولم يجد سبيلاً إليها. ثم إن السلطان خرج إلى الغزو، وبينه وبين الكفار مسيرة شهر. فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة، ودخلها إذ لم يكون عليها سور حينئذ، وادعى الملك، وبايعه بعض الناس، وامتنع آخرون. وعلم عمه بذلك، فقفل راجعاً عائداً إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر، وأخذ الجارية التي تعشقها، وقصد بلاد الكفار بمل جاوه. ولهذا بنى عمه السور على سمطرة. وكانت إقامتي عنده بسمطرة خمسة عشر يوماً، ثم طلبت منه السفر إذ كان أوانه. ولا يتهيأ السفر إلى الصين في كل وقت. فجهز لنا جنكاً، وزودنا، وأحسن وأجمل جزاه الله خيراً، وبعث معنا من أصحابه من يأتي لنا بالضيافة إلى الجنك. وسافرنا بطول بلاده إحدا وعشرين ليلة، ثم وصلنا إلى مل جاوه " بضم الميم "، وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين، وبها الأفاويه العطره والعود الطيب القاقلي والقماري، وقاقلة وقمارة من بعض بلادها، وليس ببلاد السلطان الظاهر بالجاوة إلا اللبان والكافور وشيء من القرنفل وشيء من العود الهندي، وإنما معظم ذلك بمل جاوه. ولنذكر ما شهدناه منها، ووقفنا على أعيانه وحققناه.
رحلات إبن بطوطة
الجزء الثانى
منتدى توتة وحدوتة - البوابة