من طرف فريق العمل السبت 17 مايو 2014 - 10:31
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
ذكر سلطان تونس ثم متابعة الرحلة
● [ ذكر سلطان تونس ] ●
وكانت تونس في إيالة مولانا أمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، علم الأعلام، وأوحد الملوك الكرام، أسد الآساد، وجواد الأجواد، القانت الأواب، الخاشع العادل، أبي الحسن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، ناصر دين الإسلام، الذي سارت الأمثال بجوده، وشاع في الأقطار أثر كرمه وفضله، ذي المناقب والمفاخر والفضائل والمآثر، الملك العادل الفاضل أبي سعيد مولانا أمير المسلمين وناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، قاهر الكفار ومبيدها، ومبدي آثار الجهاد ومعيدها، ناصر الإيمان، الشديد السطوة في ذات الرحمن، العابد الزاهد، الراكع الساجد، الخاشع الصالح، أبي يوسف ابن عبد الحق، رضي الله عنهم أجمعين، وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. ولما وصلت تونس قصدت الحاج أبا الحسن الناميسي لما بيني وبينه من مودات القرابة والبلدية. فأنزلني بداره، وتوجه معي إلى المشور، فدخلت المشور الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وأمرني بالقعود فقعدت. وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته. وسألني عن ابن تيفراجين فأخبرته بما فعلت المغاربة معه. وإرادتهم قتله بالإسكندرية، وما لقي من أذيتهم، انتصاراً منهم لمولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وكان في مجلسه من الفقهاء الإمام أبو عبد الله السطي، والإمام أبو عبد الله محمد بن الصباغ. ومن أهل تونس قاضيها أبو علي عمر بن عبد الرفيع، وأبو عبد الله بن هارون. وانصرفت عن المجلس الكريم. فلما كان بعد العصر استدعاني مولانا أبو الحسن، وهو ببرج يشرف على موضع القتال، ومعه الشيوخ الأجلة أبو عمر عثمان بن عبد الواحد التنالفتي، وأبو حسون زيان بن أمريون العلوي، وأبو زكرياء يحيى ابن سليمان العسكري، والحاج أبو الحسن الناميسي. فسألني عن ملك الهند فأجبته عما سأل.
ولم أزل أتردد إلى مجلسه الكريم أيام إقامتي بتونس، وكانت ستة وثلاثين يوماً. ولقيت بتونس إذ ذاك الشيخ الإمام خاتمة العلماء وكبيرهم أبا عبد الله الأبلي، وكان في فراش المرض، وباحثني عن كثير من أمور رحلتي.
ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين، فوصلنا إلى جزيرة سردانية، من جزر الروم، ولها مرسى عجيب، عليه خشب كبار دائرة به. وله مدخل كأنه باب، لا يفتح إلا باذن منهم، وفيها حصون. دخلنا أحدها، وبه أسواق كثيرة، ونذرت لله تعالى إن خلصنا الله منها صوم شهرين متتابعين. لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على اتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا.
ثم خرجنا عنها فوصلنا بعد عشر إلى مدينة تنس، ثم إلى مازونة، ثم إلى مستغانم، ثم إلى تلمسان. فقصدت العباد، وزرت الشيخ أبا مدين رضي الله عنه ونفع به، ثم خرجت عنها على طريق مدرومة، وسلكت طريق أخندقان. وبت بزاوية الشيخ إبراهيم. ثم سافرنا منها، فبينما نحن بقرب أزغنغان، إذا خرج علينا خمسون راجلاً وفارسان. وكان معي الحاج ابن قريعات الطنجي وأخوه محمد، المستشهد بعد ذلك في البحر. فعزمنا على قتالهم، ورفعنا علماً، ثم سالمونا وسالمناهم، والحمد لله، ووصلت إلى مدينة تازي، وبها تعرفت خبر موت والدتي بالوباء رحمها الله تعالى.
ثم سافرت عن تازي، فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس، فمثلت بين يدي مولانا الأعظم، الإمام الأكرم، أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، أبي عنان، وصل الله علوه، وكبت عدوه. فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق، وحسنه حسن ملك الهند، وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن، وشجاعته شجاعة ملك الترك، وحلمه حلم ملك الروم، وديانته ديانة ملك تركستان، وعلمه علم ملك الجاوة. وكان بين يديه وزيره الفاضل ذو المكارم الشهيرة والمآثر الكثيرة أبو زيان ابن ودرار، فسألني عن الديار المصرية، إذ كان قد وصل إليها فأجبته عما سأل. وغمرني من إحسان مولانا أيده الله تعالى بما أعجزني شكره. والله ولي مكافأته. وألقيت عصا التسيار ببلاده الشريفة، بعد أن تحققت بفضل الإنصاف أنها أحسن البلدان.لان الفواكه بها متيسرة، والمياه والأقوات غير متعذرة. وقل إقليم يجمع ذلك، ولقد أحسن من قال:
الغرب أحـسـن أرض . ولـــي دلـــيل عـــلـــــيه
الــبـــدر يرقـــب مـــنـه . والشمس تسعى إليه
ودراهم الغرب صغيرة وفوائدها كثيرة، وإذا تأملت أسعاره مع أسعار ديار مصر والشام ظهر لك الحق في ذلك، ولاح فضل بلاد المغرب. فأقول: إن لحوم الأغنام بديار مصر تباع بحساب ثماني عشرة أوقية بدرهم نقرة، والدرهم النقرة ستة دراهم من دراهم المغرب، وبالمغرب يباع اللحم إذا غلا سعره ثماني عشرة أوقية بدرهمين، وهما ثلث النقرة. وأما السمن فلا يوجد بمصر في أكثر الاوقات. والذي يستعمله أهل مصر من أنواع الإدام لا يلتفت إليه بالمغرب، ولان أكثر ذلك العدس والحمص يطبخونه في قدور راسيات، ويجعلون عليه السيرج والبسلا، وهو صنف من الجلبان، يطبخونه ويجعلون عليه الزيت، والقرع يطبخونه ويخلطونه باللبن، والبقلة الحمقاء يطبخونها كذلك، وأعين أغصان اللوز يطبخونها ويجعلون عليها اللبن، والقلقاس يطبخونه. وهذا كله متيسر بالمغرب، لكن أغنى الله عنه بكثرة اللحم والسمن والزبد والعسل وسوى ذلك. وأما الخضر فهي أقل الأشياء ببلاد مصر، وأما الفواكه فأكثرها مجلوبة من الشام، وأما العنب فإذا كان رخيصاً بيع عندهم ثلاثة أرطال من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم اثنا عشرة أوقية. وأما في بلاد الشام فالفواكه بها كثيرة، إلا أنها ببلاد المغرب أرخص منها ثمناً، فإن العنب يباع بها بحساب رطل من أرطالهم بدرهم نقرة، ورطلهم ثلاثة أرطال مغربية. وإذا رخص ثمنه بيع بحساب رطلين بدرهم نقرة، والإجاص يباع بحساب عشر أواق بدرهم نقرة، وأما الرمان والسفرجل فتباع الحبة منهما بثمانية قلوس، وهي درهم من دراهم المغرب. وأما الخضر فيباع بالدرهم النقرة منها أقل مما يباع في بلادنا بالدرهم الصغير. وأما اللحم فيباع فيها الرطل منه من أرطالهم بدرهمين ونصف درهم نقرة. فإذا تأملت ذلك كله تبين لك أن بلاد المغرب أرخص البلاد أسعاراً وأكثرها خيرات، وأعظمها مرافق وفوائد. ولقد زاد الله بلاد المغرب شرفاً إلى شرفها، وفضلاً إلى فضلها، بإمامة مولانا أمير المؤمنين، الذي مد ظلال الأمن في أقطارها، وأطلع شمس العدل في أرجائها، وأفاض سحاب الإحسان في باديتها وحاضرتها، وطهرها من المفسدين، وأقام بها رسوم الدنيا والدين. وأنا أذكر ما عاينته وتحققته من عدله وحلمه وشجاعته، واشتغاله بالعلم، وتفقهه، وصدقته الجارية، ورفع المظالم.
● [ ذكر بعض فضائل مولانا أيده الله ] ●
أما عدله فأشهر من أن يسطر في كتاب. فمن ذلك جلوسه للمشتكين من رعيته، وتخصيصه يوم الجمعة للمساكين منهم، وتقسيمه ذلك اليوم بين الرجال والنساء، وتقديمه النساء لضعفهن. فتقرأ قصصهن بعد صلاة الجمعة إلى العصر، ومن وصلت نوبتها نودي باسمها، ووقفت بين يديه الكريمتين، يكلمها دون واسطة. فإن كانت متظلمة عجل إنصافها، أو طالبة إحسان وقع إسعافها. ثم إذا صليت العصر قرئت قصص الرجال، وفعل مثل ذلك فيها. ويحضر المجلس الفقهاء والقضاة، فيرد إليهم ماتعلق بالأحكام الشرعية، وهذا شيء لم أر في الملوك من يفعله على هذا التمام، ويظهر فيه مثل هذا العدل. فإن ملك الهند عين بعض أمرائه لأخذ القصص من الناس، وتلخيصها ورفعها إليه، دون حضور أربابها بين يديه. وأما حلمه فقد شاهدت منه العجائب. فإنه أيده الله عفا عن الكثير ممن تعرض لقتال عساكره والمخالفة عليه، وعن أهل الجرائم الكبار الذين لا يعفو عن جرائمهم إلا من وثق بريه. وعلم علم اليقين معنى قوله تعالى: " والعافين عن الناس " قال ابن جزي: من أعجب ما شاهدته من حلم مولانا أيده الله، أني منذ قدومي على بابه الكريم في آخر عام ثلاثة وخمسين إلى هذا العهد، وهو أوائل عام سبعة وخمسين، لم أشاهد أحداً أمر بقتله إلا من قتله الشرع في حد من حدود الله تعالى قصاص أو حرابة، هذا على اتساع المملكة وانفساح البلاد واختلاف الطوائف.
ولم يسمع بمثل ذلك في ما تقدم من الأعصار، ولا فيما تباعد من الأقطار. وأما شجاعته فقد علم ما كان منه في المواطن الكريمة من الثبات والإقدام، مثل يوم قتال بني عبد الوادي وغيرهم. ولقد سمعت خبر ذلك اليوم ببلاد السودان، وذكر ذلك عند سلطانهم فقال: هكذا وإلا فلا.
قال ابن جزي: لم يزل الملوك الأقدمون تتفاخر بقتل الآساد وهزائم الأعادي، ومولانا أيده الله كان قتل الأسد أهون عليه من قتل الشاة على الأسد، فإنه لما خرج الأسد على الجيش بوادي النجارين من المعمورة بحوز سلا، وتحامته الأبطال، وفرت أماه الفرسان والرجال، برز إليه مولانا أيده الله غير محتفل به، ولا متهيب منه، فطعنه بالرمح ما بين عينيه طعنة خر بها صريعاً لليدين وللفم. وأما هزائم الأعادي فإنها اتفقت للملوك بثبوت جيوشهم وإقدام فرسانهم، فيكون حظ الملوك الثبوت والتحريض على القتال. وأما مولانا أيده الله فإنه أقدم على عدوه منفرداً بنفسه الكريمة، بعد علمه بفرار الناس، وتحققه أنه لم يبق معه من يقاتل. فعند ذلك وقع الرعب في قلوب الأعداء، وانهزموا أمامه. فكان من العجائب فرار الأمم أمام واحد. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والعاقبة للمتقين، وما هو إلا ثمرة ما يمتاز به أعلى مقامه من التوكل على الله والتفويض إليه. وأما اشتغاله بالعلم فها هو أيده الله تعالى يعقد مجالس العلم في كل يوم بعد صلاة الصبح، ويحضر لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة بمسجد قصره الكريم، فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوفة. وفي كل علم منها. له القدح المعلى، يجلو مشكلاته بنور فهمه، ويلقى نكته الرائقة من حفظه. وهذا شأن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين.
ولم أر من ملوك الدنيا من باغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية. فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتى رأيت ملازمة مولانا، أيده الله، في الصلوات كلها في الجماعة وقيام رمضان: " والله يختص برحمته من يشاء " .
قال ابن جزي: لو أن عالماً ليس له شغل إلا بالعلم ليلاً ونهاراً، لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم، مع اشتغاله بأمور الأمة، وتدبيره لسياسة الأقاليم النائية، ومباشرته من حال ملكه مالم يباشره أحد من الملوك، ونظره بنفسه في شكايات المظلومين. ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أي علم كان، إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها، واستخرج غوامضها، واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها. ثم سما أيده الله إلى العلم الشريف التصوفي، ففهم إشارات القوم، وتخلق بأخلاقهم. وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته، وشفقته على رعيته، ورفقه في أمره كله. وأعطى للآداب حظاً جزيلاً من نفسه، فاستعمل أحسنها منزعاً، وأعظمها موقعاً، وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة، روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبهما بخط يده الذي يخجل الروض حسناً.
وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه، ولا رام إدراكه. ومن تأمل التوقيعات الصادرة عنه أيده الله تعالى، وأحاط علماً بحصولها، لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها، وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها. وأما صدقاته الجارية، وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام للوارد والصادر، فذلك ما لم يفعله أحد من الملوك، غير السلطان أتابك أحمد. وقد زاد عليه مولانا أيده الله بالتصدق على المساكين بالطعام كل يوم والتصدق بالزرع على المتسترين من أهل البيوت.
قال ابن جزي: اخترع مولانا أيده الله في الكرم والصدقات أموراً لم تخطر في الأوهام، ولا اهتدت إلأيها السلاطين. فمنها إجراء الصدقات على المساكين بكل بلد من بلاده علىالدوام. ومنها تعيين الصدقة الوافرة للمسجونين في جميع البلاد أيضاً، ومنها كون تلك الصدقات خبزاً مخبوزاً متيسراً للانتفاع به، ومنها كسوة المساكين والضعفاء والعجائز والمشايخ والملازمين للمساجد بجميع بلاده، ومنها تعيين الضحايا لهؤلاء الأصناف في عيد الأضحى، ومنها التصدق بما يجتمع في مجابي أبواب بلاده يوم سبعة وعشرين من رمضان إكراماً لذلك اليوم الكريم وقياماً بحقه، ومنها إطعام الناس في جميع البلاد ليلة المولد الكريم، واجتماعهم لإقامة رسمه، ومنها إعذار اليتامى من الصبيان وكسوتهم يوم عاشوراء، ومنها صدقته على الزمنى والضعفاء بأزواج الحرث، يقيمون بها أودهم، ومنها صدقته على المساكين بحضرته بالطنافس الوثيرة والقطائف الجياد يفترشونها عند رقادهم.
وتلك مكرمة لا يعلم لها نظير، ومنها بناء المرستانات في كل بلد من بلاده، وتعيين الأوقاف الكثيرة لمؤن المرضى، وتعيين الأطباء لمعالجتهم والتصرف في طلبهم، إلى غير ذلك مما أبدع فيه من أنواع المكاره، وضروب المآثر، كافأ الله أياديه، وشكر نعمه. وأما رفعه للمظالم عن الرعية، فمنها الرتب التي كانت تؤخذ بالطرقات، أمر أيده الله بمحو رسمها، وكان لها مجبى عظيم، فلم يلتفت إليه، وما عند الله خير وأبقى، وأما كفه أيدي الظلام فأمر مشهور، وقد سمعته أيده الله يقول لعماله: لا تظلموا الرعية، ويؤكد عليهم تلك الوصية.
قال ابن جزي: ولو لم يكن من رفق مولانا أيده الله برعيته إلى رفعه التضييف الذي كانت عمال الزكاة وولاة البلاد تأخذه من الرعايا، لكفى ذلك أثراً في العدل ظاهراً ونوراً في الرفق باهراً، فكيف وقد رفع من المظالم وبسط من المرافق ما لا يحيط به الحصر. وقد صدر في أيام تصنيف هذا من أمره الكريم في الرفق بالمسجونين، ورفع الوظائف الثقيلة التي كانت تؤخذ منهم، ما هو اللائق بإحسانه، والمعهود من رأفته، وشمل الأمر بذلك جميع الأقطار، وكذلك صدر من التنكيل بمن ثبت جوره من القضاة والحكام، ما فيه زجر الظلمة وردع المعتدين.
وأما فعله في معاونة أهل الأندلس على الجهاد، ومحافظته على إمداد الثغور بالأموال والأقوات والسلاح، وفته في عضد العدو بإعداد العدد وإظهار القوة، فذلك أمر شهير، لم يغب علمه عن أهل المغرب والمشرق، ولا سبق إليه أحد من الملوك.
قال ابن جزي: حسب المتشوف إلى علم ما عند مولانا أيده الله من سداد القطر إلى المسلمين، ودفاع القوم الكافرين، ما فعله في فداء مدينة طرابلس أفريقية. فإنها لما استولى العدو عليها، ومد يد العدوان إليها، ورأى، أيده الله، أن بعث الجيوش إلى نصرتها لا يتأتى لبعد الأقطار، كتب إلى خدامه ببلاد إفريقية أن يفدوها بالمال. ففديت بخمسين ألف دينار من الذهب العين. فلما بلغه خبر ذلك قال: الحمد لله الذي استرجعها من أيدي الكفار بهذا النزر اليسير. وأمر للحين ببعث ذلك العدد إلى إفريقية، وعادت المدينة إلى الإسلام على يديه. ولم يخطر في الأوهام أن أحداً تكون عنده خمسة قناطير من الذهب نزراً يسيراً حتى جاء بها مولانا أيده الله مكرمة بعيدة، ومأثرة فائقة، قل في الملوك أمثالها وعز عليهم مثالها. ومما شاع من أفعال مولانا أيده الله في الجهاد إنشاؤه الأجفان بجميع السواحل، واستكثاره من عدد البحر، وهذا في زمان الصلح والمهادنة، إعداداً لأيام الغزاة. وأخذ بالحزم في قطع أطماع الكفار، وأكد ذلك بتوجهه، أيده الله، بنفسه إلى جبال جاناته في العام الفارط ليباشر قطع الخشب للإنشاء، ويظهر قدر ما له بذلك من الاعتناء، ويتولى بذاته أعمال الجهاد، مترجياً ثواب الله تعالى، وموقناً بحسن الجزاء.
ومن أعظم حسناته، أيده الله، عمارة المسجد الجديد بالمدينة البيضاء، دار ملكه العلي، وهو الذي امتاز بالحسن واتقان البناء وإشراق النور وبديع الترتيب، وعمارة المدرسة الكبرى بالموضع المعروف بالقصر مما يجاور قصبه فاس، ولا نظير لها في المعمورة اتساعاً وحسناً وإبداعاً وكثرة ماء وحسن وضع. ولم أر في مدارس الشام ومصر والعراق وخراسان ما يشبهها. وعمارة الزاوية العظمى على غدير الحمص، خارج المدينة البيضاء، فلا مثل لها أيضاً في عجيب وضعها وبديع صنعها. وأبدع زاوية رأيتها بالشرق زاوية سرياقص " سرياقوس " التي بناها الملك الناصر. وهذه أبدع منها وأشد إحكاماً وإتقاناً. والله سبحانه ينفع مولانا، أيده الله، بمقاصده الشريفة، ويكافئ فضائله المنيفة، ويديم للإسلام والمسلمين أيامه، وينصر ألويته المظفرة وأعلامه.
● [ عودة الى ذكر الرحلة ] ●
ولنعد إلى ذكر الرحلة فنقول: ولما حصلت لي مشاهدة هذا المقام الكريم، وعمني فضل إحسانه العميم، قصدت زيارة قبر الوالدة. فوصلت إلى بلدة طنجة وزرتها، وتوجهت إلى مدينة سبتة، فأقمت بها أشهراً، وأصابني بها المرض ثلاثة أشهر، ثم عافاني الله. فأردت أن يكون لي حظ من الجهاد والرباط، فركبت البحر من سبتة في شطي لأهل أصيلا، فوصلت إلى بلاد الأندلس، حرسها الله تعالى، حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن. وكان ذلك إثر موت طاغية الروم ألفونس، وحصاره الجبل عشرة أشهر، وظنه أنه يستولي على ما بقي من بلاد الأندلس للمسلمين. فأخذه الله من حيث لم يحتسب، ومات بالوباء الذي كان أشد الناس خوفاً منه. وأول بلد شاهدته من البلاد الأندلسية جبل الفتح. فلقيت به خطيبه الفاضل أبا زكريا يحيى بن السراج الرندي، وقاضيه عيسى البربري، وعنده نزلت وتطوفت معه على الجبل، فرأيت عجائب ما بني به مولانا أبو الحسن، رضي الله عنه، وأعد فيه من العدد، وما زاد على ذلك مولانا، أيده الله. وودت لو كنت ممن رابط به إلى نهاية العمر.
قال ابن جزي: جبل الفتح هو معقل الإسلام المعترض شجىً في حلوق عبدة الأصنام، حسنة مولانا أبي الحسن، رضي الله عنه، المنسوبة إليه، وقربته التي قدمها نوراً بين يديه، محل عدد لجهاد، ومقر آساد الأجناد، والثغر الذي افتر عن نصر الإيمان، وأذاق أهل الأندلس بعد مرارة الخوف حلاوة الأمان، ومنه كان مبدأ الفتح الأكبر، وبه نزل طارق بن زياد، مولى موسى بن نصير، عند جوازه، فنسب إليه، فيقال له: جبل طارق، وجبل الفتح، لأن مبدأه كان منه. وبقايا السور الذي بناه من معه باقية إلى الآن، تسمى بسور العرب. شاهدتها أيام إقامتي به عند حصار الجزيرة، أعادها الله، ثم فتحه مولانا أبو الحسن، رضوان الله عليه، واسترجعه من أيدي الروم بعد تملكهم له عشرين سنة ونيفاً، وبعث إلى حصاره ولده الأمير الجليل أبا مالك، وأيده بالأموال الطائلة والعساكر الجرارة. وكان فتحه بعد حصار ستة أشهر، وذلك في عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، ولم يكن حينئذٍ على ما هو الآن عليه. فبنى به مولانا أبو الحسن، رحمة الله عليه، المأثرة العظمى بأعلى الحصن، وكانت قبل ذلك برجاً صغيراً، تهدم بأحجار المجانيق، فبناها مكانه، وبنى به دار الصناعة، ولم يكن به دار صنعة، وبنى السور الأعظم المحيط بالتربة الحمراء، الآخذ من دار الصنعة إلى القرمدة. ثم جدد مولانا أمير المؤمنين أبو عنان، أيده الله، عهد تحصينه وتحسينه، وزاد بناء السور بطرف الفتح، وهو أعظم أسواره غناء، وأعمها نفعاً. وبعث إليه العدد الوافرة والأقوات والمرافق العامة، وعامل الله تعالى فيه بحسن النية، وصدق الإخلاص. ولما كان في الأشهر الأخيرة من عام ستة وخمسين، وقع بجبل الفتح ما ظهر فيه أثر يقين مولانا، أيده الله، وثمرة توكله في أموره على الله، وبان مصداق ما اطرد له من السعادة الكافية. وذلك أن عامل الجبل الخائن الذي ختم له بالشقاء عيسى بن الحسن بن أبي منديل نزع يده المغلولة عن الطاعة، وفارق عصمة الجماعة، وأظهر النفاق، وجمح في الغدر والشقاق، وتعاطى ما ليس من رجاله، وعمي عن مبدأ حاله السيء ومآله، وتوهم الناس أن ذلك مبدأ فتنة تنفق على إطفائها كرائم الأموال، ويستعد لاتقائها بالفرسان والرجال. فحكمت سعادة مولانا، أيده الله ببطلان هذا التوهم، وقضى صدق يقينه بانخراق العادة في هذه الفتنة، فلم تكن إلا أيام يسيرة، وراجع أهل الجبل بصائرهم، وثاروا على الثائر، وخالفوا الشقي المخالف، وقاموا بالواجب من الطاعة، وقبضوا عليه وعلى ولده المساعد له في النفاق، وأتي بهما مصفدين إلى الحضرة العلية، فنفذ فيهما حكم الله في المحاربين، وأراح الله من شرهما. ولما خمدت نار الفتنة أظهر مولانا، أيده الله من العناية ببلاد الأندلس ما لم يكن في حساب أهلها، وبعث إلى جبل الفتح ولده الأسعد المبارك الأرشد أبا بكر، المدعو من السمات السلطانية بالسعيد، أسعده الله تعالى، وبعث معه أنجاد الفرسان ووجوه القبائل وكفاة الرجال، وأدر عليهم الأرزاق، ووسع لهم الإقطاع، وحرر بلادهم من المغارم، وبذل لهم جزيل الإحسان. وبلغ من اهتمامه بأمور الجبل أن أمر، أيده الله، ببناء شكل يشبه شكل الجبل المذكور، فمثل فيه أشكال أسواره وأبراجه وحصنه وأبوابه ودار صنعته ومساجده ومخازن عدده وأهرية زرعه وصورة الجبل، وما اتصل به من التربة الحمراء. فصنع ذلك بالمشور السعيد، فكان شكلاً عجيباً أتقنه الصناع إتقاناً يعرف قدره من شاهد الجبل، وشاهد هذا المثال، وما ذلك إلا لتشوقه، أيده الله، إلى استطلاع أحواله وتهممه بتحصينه وإعداده. والله تعالى يجعل نصر الإسلام بالجزيرة الغربية على يديه، ويحقق ما يؤمله في فتح بلاد الكفار، وشت شمل عباد الصليب. وتذكرت حين هذا التقييد قول الأديب البليغ المفلق أبي عبد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي، رحمه الله، في وصف هذا الجبل المبارك من قصيدته الشهيرة في مدح عبد المؤمن بن علي التي أولها:
لو جئت نار الهدى من جانب الطور . قبسـت مـا شـئت مـن عـلـم ومـن نـور
وفيها يقول في وصف الجبل، وهو من البديع الذي لم يسبق إليه، بعد وصفه السفن وجوازها:
حتى رمت جبل الفتحين من جـبل . معظم القدر في الأجيال مذكور
من شامخ الأنف في سحنائه طلس . له من الغـيم جـيب غير مزرور
تمسي النجوم عـلى تـكـليل مفرقه . في الجو حـائمة مثل الدنانير
فربما مسحته من ذوائبها . بكـل فـضـل عـلـى فـوديه مجـرور
وادردٍ مـــن ثـــنــــاياه بـمـا أخذت . منه معاجم أعـواد الدهارير
محنـك حلب الأيام أشطرها . وساقـهـا سـوق حـادي الـعـير لـلـعـير
مقـيد الخطـو جوال الخواطر في . عجيب أمر به من ماضٍ ومنظور
قد واصل الصمت والإطراق مفتكراً . بادي السكينة مغبر الأسارير
كأنـــه مكمد مما تعبـده . خوف الـوعـيدين من دك وتسيير
أخلق به وجبال الأرض راجفة . أن يطـمئن غـداً من كل محذور
ثم استمر في قصيدته على مدح عبد المؤمن بن علي.
قال ابن جزي: ولنعد إلى كلام الشيخ أبي عبد الله قال: ثم خرجت من جبل الفتح إلى مدينة رندة، وهي من أمنع معاقل المسلمين وأجملها وضعاً، وكان قائدها إذ ذاك الشيخ أبو الربيع سليمان بن داود العسكري، وقاضيها ابن عمي الفقيه أبو القاسم محمد بن يحيى بن بطوطة. ولقيت بها الفقيه القاضي الأديب أبا الحجاج يوسف بن موسى المنتشاقري، وأضافني بمنزله، ولقيت بها أيضاً خطيبها الصالح الحاج الفاضل أبا إسحاق إبراهيم المعروف بالشندرخ، المتوفى بعد ذلك بمدينة سلا من بلاد المغرب، ولقيت بها جماعة من الصالحين منهم عبد الله الصفار وسواه. وأقمت بها خمسة أيام.
ثم سافرت منها إلى مدينة مربلة، والطريق فيما بينهما صعب شديد الوعورة، ومربلة بليدة حسنة خصبة. ووجدت بها جماعة من الفرسان متوجهين إلى مالقة، فأردت التوجه في صحبتهم. ثم إن الله تعالى عصمني بفضله فتوجهوا قبلي، فأسروا في الطريق، كما سنذكره. وخرجت في أثرهم، فلما جاوزت حوز مربلة، ودخلت في حوز سهيل، مررت بفرس ميت في بعض الخنادق، ثم مررت بقفة حوات مطروحة بالأرض، فرابني ذلك، وكان أمامي برج الناظور. فقلت في نفسي: لو ظهر ها هنا عدو لأنذر به صاحب البرج. ثم تقدمت إلى دار هنالك، فوجدت فرساً مقتولاً. فبينما أنا هنالك، إذا سمعت الصياح من خلفي، وكنت قد تقدمت أصحابي، فعدت إليهم، فوجدت معهم قائد حصن سهيل، فأعلمني أن أربعة أجفان للعدو ظهرت هنالك، ونزل بعض عمارتها إلى البر. ولم يكن الناظور. بالبرج، فمر بهم الفرسان الخارجون من مربلة، وكانوا اثني عشر، فقتل النصارى أحدهم، وفر واحد، وأسر العشرة. وقتل معهم رجل حوات، وهو الذي وجدت قفته مطروحة بالأرض. وأشار علي ذلك القائد بالمبيت معه في موضعه ليوصلني منه إلى مالقة، فبت عنده بحصن الرابطة المنسوب إلى سهيل. والأجفان المذكورة مرساة عليه. وركب معي بالغد، فوصلنا إلى مدينة مالقة، إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه. رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير. ورمانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا. وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب. قال ابن جزي: وإلى ذلك أشار الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي في قوله، وهو من مليح التجنيس:
مالقة حييت ياتينهـا . فالـفـلـك مـن أجـلـك يأتـينـهــا
نهى طبيبي عنك فـي عـلة . ما لطبيبي عن حياتي نهى
وذيلها قاضي الجماعة أبو عبد الله بن عبد الملك بقوله في قصد المجانسة:
وحمص لا تنس لها تينها . واذكر مع التين زياتينـهـا
وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد. ومسجدها كبير الساحة، شهير البركة، وصحنه لا نظير له في الحسن، فيه أشجار النارنج البعيدة. ولما دخلت مالقة، وجدت قاضيها الخطيب الفاضل أبا عبد الله ابن خطيبها الفاضل أبي جعفر ابن خطيبها ولي الله تعالى أبي عبد الله الطنجالي قاعداً بالجامع الأعظم، ومعه الفقهاء ووجوه الناس، يجمعون مالاً برسم فداء الأسارى الذين تقدم ذكرهم. فقلت له: الحمد لله الذي عافاني، ولم يجعلني منهم. وأخبرته بما اتفق لي بعدهم، فعجب من ذلك، وبعث إلي بالضيافة، رحمه الله. وأضافني أيضاً خطيبها أبو عبد الله الساحلي المعروف بالمعمم
ثم سافرت منها إلى مدينة بلش، وبينهما أربعة وعشرون ميلاً. وهي مدينة حسنة، بها مسجد عجيب، وفيها الأعناب والفواكه والتين، كمثل ما بمالقة. ثم سافرنا منها إلى الحمة، وهي بلدة صغيرة، لها مسجد بديع الوضع عجيب البناء. وبها العين الحارة على ضفة واديها، وبينها وبين البلد ميل أو نحوه. وهنالك بيت لاستحمام الرجال، وبيت لاستحمام النساء.
ثم سافرت منها إلى مدينة غرناطة، قاعدة بلاد الأندلس ، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في بلاد الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلاً، يخترقه نهر شنيل المشهور، وسواه من الأنهار الكثيرة، والبساتين والجنان والرياض والقصور. والكروم محدقة بها من كل جهة. ومن عجيب مواضعها عين الدمع، وهو جبل فيه الرياض والبساتين، لا مثل لها بسواها. قال ابن جزي: لولا خشيت أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة، فقد وجدت مكانه. ولكن ما اشتهر كاشتهارها، لا معنى لإطالة القول فيه. ولله در شيخنا أبي بكر محمد بن أحمد بن شيرين البستي، نزيل غرناطة، حيث يقول:
رعـى الله من غرناطةٍ متبوأ . يسر حزيناً أو يجير طـريداً
تبـرم منها صاحبي عند ما رأى . مسارحها بالثلج عدن جليدا
هي الثغر، صان الله من أهلت به . وما خير ثغر لا يكون بـرودا
رحلة إبن بطوطة
الجزء الثانى
منتدى توتة وحدوتة - البوابة