بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ فصل في بيان ما أمر الله به ورسوله ] ● من إقامة الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها
قال الله تعالى في غير موضع من كتابه { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقال تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين } وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم { أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون } وقال تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } وقالت تعالى { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقال تعالى { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وقال تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } وسيأتي ببيان الدلالة في هذه الآيات وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأصحاب المسانيد كمسند احمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم سلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ثم قال ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وفي رواية للبخاري إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها و في رواية له ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما و باقيه مثله و في رواية و إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك و ما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد فذكر الحديث و قال فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر و يحمد الله عز و جل و يثني عليه و يقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قائما ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قاعد ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته و في رواية إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز و جل فيغسل وجهه و يديه إلى المرفقين و يمسح برأسه و رجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله و يحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له و تيسر و ذكر نحو اللفظ الأول و قال ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه و ربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله و تسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته و يقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك رواه أهل السنن أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و قال حديث حسن و الروايتان لفظ أبي داود و في رواية ثالثة له قال إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن و بما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فضع راحتك على ركبتيك و امدد ظهرك و قال إذا سجدت فمكن لسجودك فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى وفي رواية أخرى قال إذا أنت قمت في صلاتك فكبر الله عز و جل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن و قال فيه فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن و افترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك وفي رواية أخرى قال فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأتم ثم كبر فإن كان معك قرآن فاقرأ به و إلا فاحمد الله عز و جل و كبره و هلله و قال فيه و إن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر ذلك المسيء في صلاته بأن يعيد الصلاة و أمر الله و رسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب و أمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع و السجود و أمره المطلق على الإيجاب و أيضا قال له فإنك لم تصل فنفى أن يكون عمله الأول صلاة و العمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شيء من واجباته فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز و جل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات التي ليست بواجبة و أما ما يقوله بعض الناس إن هذا نفي للكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فيقال له نعم هو لنفي الكمال لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات فأما الأول فحق و أما الثاني فباطل لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز و جل و لا في كلام رسوله قط و ليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه و أيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين و الآخرين لأن كمال المستحبات من أندر الأمور و على هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب و السنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته كقوله تعالى [ 4 65 ] { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } و قوله تعالى [ 24 47 ] { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } و قوله تعالى [ 59 15 ] { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } الآية و قوله [ 24 62 ] { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } الآية و نظائر ذلك كثيرة و من ذلك قوله صلى الله عليه و سلم ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) و ( ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) و ( لا صلاة إلا بوضوء ) و أما قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فهذا اللفظ قد قيل إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم و ذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات و بكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه و لكن نظيره في السنن عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ( من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ) و لا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي و الصلاة في جماعة من الواجبات كما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله إني رجل شاسع الدار و لي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي، قال هل تسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه و يثاب على ما فعله من الصلاة أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها هذا فيه نزاع بين العلماء و على هذا قوله صلى الله عليه و سلم إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك و ما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها و كذلك قوله في الحديث الآخر فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته و يؤيد هذا أنه أمره بأن يعيد الصلاة و لو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة و لهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا لكن لو لم يعد و فعلها ناقصة فهل يقال إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها أو يقال إنه يثاب على ما فعله و يعاقب على ما تركه بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع هذا فيه نزاع و الثاني أظهر لما روى أبو داود و ابن ماجة عن أنس بن حكيم الضبي قال خاف رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة فلقي أبا هريرة رضي الله عنه قال فنسبني فانتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثا قال قلت بلى يرحمك الله قال يونس فأحسبه ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز وجل لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموها من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم و في لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح و أنجح و إن فسدت فقد خاب و خسر فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر أعماله على هذا ) رواه الترمذي و قال حديث حسن و روى أيضا أبو داود و ابن ماجة عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى قال ثم الزكاة مثل ذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك و أيضا فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع و السجود ) رواه أهل السنن الأربعة و قال الترمذي حديث حسن صحيح فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع و ينتصب من السجود فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع و السجود و هذه المسألة و إن لم تكن هي مسألة الطمأنينة فهي تناسبها و تلازمها و ذلك أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع و السجود فالطمأنينة فيهما أوجب و ذلك أن قوله يقيم ظهره في الركوع و السجود أي عند رفعه رأسه منهما فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع و السجود لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل و يكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل فالخفض و الرفع هما طرفا الركوع و السجود و تمامهما فلهذا قال يقيم صلبه في الركوع و السجود و يبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع و السجود و هذا كقوله في الحديث المتقدم ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله و تسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته و يقيم صلبه فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض و الحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة لكن قال في الركوع و السجود و القعود حتى تطمئن راكعا و حتى تطمئن ساجدا و حتى تطمئن جالسا و قال في الرفع من الركوع حتى تعتدل قائما و حتى تستوي قائما لأن القائم يعتدل و يستوي و ذلك مستلزم الطمأنينة و أما الراكع و الساجد فليسا منتصبين و ذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال و الاستواء فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك و إما إلى أمامه لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية و معتدلة مع أنه قد روى ابن ماجة أنه صلى الله عليه و سلم قال في الرفع من الركوع حتى تطمئن قائما و عن علي بن شيبان الحنفي قال خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه و صلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعني صلبه في الركوع و السجود فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع و السجود رواه الإمام أحمد و ابن ماجة وفي رواية للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه و سجوده و هذا يبين أن إقامة الصلب هي الاعتدال في الركوع كما بيناه و إن كان طائفة من العلماء من أصحابنا و غيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة و احتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده لا على الاعتدالين و على ما ذكرناه فإنه يدل عليهما و روى الإمام أحمد في المسند عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها و لا سجودها ) ) أو قال ( لا يقيم صلبه في الركوع و السجود ) وهذا التردد في اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد و إنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك و أيضا فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب و افتراش السبع و أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أخرجه أبو داود و النسائي و ابن ماجة و إنما جمع بين الأفعال الثلاثة و إن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة فنهى عن مشابهة فعل الغراب و عما يشبه فعل السبع و عما يشبه فعل البعير و إن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر و في الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( اعتدلوا في الركوع و السجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) لا سيما وقد بين في حديث آخر أنه من صلاة المنافقين و الله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين فروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ( تلك صلاة المنافق يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ) فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة و يضيع فعلها و ينقرها فدل ذلك على ذم هذا و هذا و إن كان كلاهما تاركا للواجب و ذلك حجة واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز و أنه من فعل من فيه نفاق و النفاق كله حرام و هذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله و قال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } و هذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه و سجوده بالاعتدال و الطمأنينة و المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الأمثال فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب و أما ما يرويه طوائف من العامة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك فقال لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار فسكت عنه عمر فهذا لا أصل له و لم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني لا في الصحيح و لا في الضعيف و الكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار و أيضا فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع و ينقر في سجوده و رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه و ينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا فأسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار و أتموا الركوع و السجود قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله الأشعري من حدثك بهذا الحديث قال أمراء الأجناد خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله و روى ابن ماجة بعضه و أيضا ففي صحيح البخاري عن أبي وائل عن زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه و لا سجوده فلما قضى صلاته دعاه و قال له حذيفة ما صليت و لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم و لفظ أبي وائل ما صليت و أحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم و هذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة أو ترك الاعتدال أو ترك كلاهما فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك إذ نقر الغراب و الفصل بين السجدتين بحد السيف و الهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإيتان بما قد يقال إنه ركوع أو سجود و هذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود لكنه لم يتمه و مع هذا قال له حذيفة ما صليت فنفى عنه الصلاة ثم قال لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم و على غير السنة و كلاهما المراد به هنا الدين و الشريعة ليس المراد به فعل المستحبات فإن هذا لا يوجب هذا الذم و التهديد فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المستحبات و لأن لفظ الفطرة و السنة في كلامهم هو الدين و الشريعة و إن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم ( إن الله فرض عليكم صيام رمضان و سننت لكم قيامه ) فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى و إن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى و إنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم و لقد رأينا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق و منه قوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ ) ولأن الله سبحانه و تعالى أمر في كتابه بإقامة الصلاة و ذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها فقال تعالى في غير موضع { وأقيموا الصلاة } و إقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال أقيموا الركوع و السجود فإني أراكم من بعد ظهري و في رواية أتموا الركوع و السجود و سيأتي تقرير دلالة ذلك و الدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه و تعالى قال { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فأباح الله القصر من عددها و القصر من صفتها و لهذا علقه بشرطين السفر و الخوف فالسفر يبيح قصر العدد فقط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله وضع عن المسافر الصوم و شطر الصلاة ) ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة التي اتفقت الأمة على نقلها عنه أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين و لم يصلها في السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما لا في الحج و لا في العمرة و لا في الجهاد و الخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } فذكر صلاة الخوف وهي صلاة ذات الرقاع إذ كان العدو في جهة القبلة و كان فيها أنهم كانوا يصلون خلفه فإذا قام إلى الثانية فارقوه و أتموا لأنفسهم الركعة الثانية ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم كما قال { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } فجعل السجود لهم خاصة فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } فعلم أنهم يفعلونه وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين و مفارقة الأولين للإمام و قيام الآخرين قبل سلام الإمام و يتمون لأنفسهم ركعة ثم قال تعالى [ 4 103 ] { فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة و ذلك يتضمن الإتمام و ترك القصر منها الذي أباحه الخوف و السفر فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان و أما قوله في صلاة الخوف { فأقمت لهم الصلاة } فتلك إقامة و إتمام في حال الخوف كما أن الركعتين في السفر إقامة و إتمام كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلاة السفر ركعتان و صلاة الجمعة ركعتان و صلاة الفطر ركعتان تمام من غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم و هذا يبين ما رواه مسلم و أهل السنن عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إقصار الناس الصلاة اليوم و إنما قال الله عز وجل { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } و قد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن فبينت السنة أن القصر نوعان كل نوع له شرط و ثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة لأنه بذلك أمر الناس ليست مقصورة في الأجر و الثواب و إن كانت مقصورة في الصفة و العمل إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة و يؤمر بالاقتصار تارة و أيضا فإن الله تعالى قال [ 4 103 ] { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } و الموقوت قد فسره السلف بالمفروض و فسروه بما له وقت و المفروض هو المقدر المحدد فإن التوقيت و التقدير و التحديد و الفرض ألفاظ متقاربة و ذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة و ذلك في زمانها و أفعالها و كما أن زمانها محدود فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا و جعل بعضها أربعا في الحضر و اثنتين في السفر و بعضها ثلاثا و بعضها اثنتين في الحضر و السفر و تقدير عملها أيضا و لهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم و التأخير في الزمان كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة و ذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر و لهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار و صلاتي النهار الظهر و العصر و صلاتي الليل المغرب العشاء و كذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها و صفتها و هو موقوت محدود ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره لم يكن قد أتى بحد القيام ومن المعلوم أن ذكر القيام الذي هو القراءة أفضل من ذكر الركوع و السجود و لكن نفس عمل الركوع و السجود أفضل من عمل القيام و لهذا كان عبادة بنفسه و لم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه و غير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا العذر وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود لا يبكون سجوده من انحناء فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين وأيضا ففي ذلك إتمام الركوع والسجود وأيضا فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ولهذا يقال للشيء الدائم ليس له قدر فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد وأيضا فإن الله عز وجل أمرنا بإقامتها والإقامة أن تجعل قائمة والشيء القائم هو المستقيم المعتدل فلا بد أن تكون افعال الصلاة مستقرة معتدلة وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها وهذا يتضمن الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر وكذلك الراكع يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة ) وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري ) وفي لفظ أقيموا الصفوف وروى البخاري من حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهرى وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه ) فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا لم يكونوا مصطفين ولكانوا يؤمرون الإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده فأمر النبى صلى الله علية وسلم أن يعيد الصلاة فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وفي رواية من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم ) وفي رواية للبخاري عن همام عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم ) ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ( أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عروبة أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم وذكره ) فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر وأيضا فأمر لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الإعتدال فيهما وإتمام طرفيهما وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الإنصراف قبله وأيضا فقوله تعالى [ 2 238 ] { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } أمر بالقنوت للقيام لله والقنوت دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود كما قال تعالى [ 9 39 ] { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } وقال تعالى [ 4 34 ] { فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله } وقال [ 31 33 ] { ومن يقنت منكن لله ورسوله } [ 2 116 ] وقال { وله من في السماوات والأرض كل له قانتون } فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى { وقوموا لله قانتين } إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله [ 4 135 ] { كونوا قوامين بالقسط } فيعم أفعالها ويقتضي الدوام في أفعالها وإما أن يكون المراد به قيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه، وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى ويقوى الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت { وقوموا لله قانتين } قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ودل الأمر للقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل لمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد ( إن في الصلاة لشغلا ) ) فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلى عن مخاطبة الناس و هذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة و التسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها ولا ينافي القنوت فيها و أيضا فإنه سبحانه قال [ 15 32 ] { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات و سبح بحمد ربه و معلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات و لذلك وجب السجود مع ذلك و قد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم و ذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة و لهذا قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد و غيرهم إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم و الثاني أن الخرور هو السقوط و الوقوع و هذا إنما يقال فيما يثبت و يسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض و لهذا قال الله [ 22 36 ] { فإذا وجبت جنوبها } و الوجوب في الأصل هو الثبوت و الاستقرار و أيضا فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال لما نزلت [ 56 96 ] { فسبح باسم ربك العظيم } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزلت [ 1 87 ] { سبح اسم ربك الأعلى } قال ( اجعلوها في سجودكم ) رواه أبو داود و ابن ماجة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل هذين التسبيحين في الركوع و السجود و أمره على الوجوب و ذلك يقتضي وجوب ركوع و سجود تبعا لهذا التسبيح و ذلك هو الطمأنينة ثم إن من الفقهاء من قد يقول التسبيح ليس بواجب و هذا القول يخالف ظاهر الكتاب و السنة فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل و القول جميعا فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل و أما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى [ 39 50 ] { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } و هذا أمر بالصلاة كلها كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } و إذا كان الله عز و جل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب التسبيح كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى [ 2 72 ] { قم الليل إلا قليلا } دل على وجوب القيام و كذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى [ 17 78 ] { وقرآن الفجر } دل على وجوب القرآن فيها و لما سماها ركوعا و سجودا في مواضع دل على وجوب الركوع و السجود فيها و ذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له فيسمونه رقبة و رأسا و وجها و نحو ذلك كما في قوله تعالى [ 3 58 ] { فتحرير رقبة } ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولأعلى ما يستلزم معناه و أيضا فإن الله عز وجل ذم عموم الإنسان و استثنى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون قال تعالى [ 23 - 19 70 ] { إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } و السلف من الصحابة و من بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها و بالدائم على أفعالها بالإقبال عليها و الآية تعم هذا و هذا فإنه قال { على صلاتهم دائمون } و الدائم على الفعل هو المديم له الذي يفعله دائما فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة هو أن يفعله كل يوم بحيث لا يفعله تارة و يتركه أخرى و سمي ذلك دواما عليه فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دواما و أن تتناول الآية ذلك و ذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها لأن الله عز و جل ذم عموم الإنسان و استثنى المداوم على هذه الصفة فتارك إدامة أفعالها يكون مذموما من الشارع و الشارع لا يذم إلا على ترك واجب أو فعل محرم و أيضا فإنه سبحانه و تعالى قال { إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون } فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائما على صلاته و قد لا يكون دائما عليها و أن المصلي الذي ليس بدائم مذموم و هذا يوجب ذم من لا يديم أفعاله المتصلة و المنفصلة و إذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع و السجود و غيرهما و لو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دواما و لم يجب الدوام على الركوع و السجود وهما أصل أفعال الصلاة
● [ لهذا الفصل بقية ] ●
القواعد النورانية الفقهية تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس منتدى ميراث الرسول - البوابة