منتدى قوت القلوب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين

    avatar
    فريق العمل
    Admin


    المساهمات : 2671
    تاريخ التسجيل : 22/12/2013

    الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين Empty الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين

    مُساهمة من طرف فريق العمل الأربعاء 1 مايو 2019 - 3:48

    الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين Alathe10

    بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
    أحوال البلاد وأخبار العباد
    الأحداث من سنة خمس وخمسين
    وحتى سنة تسع وخمسين
    الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين 1410
    ● [ ثم دخلت سنة خمس وخمسين ] ●

    في هذه السنة كان مشتى سفيان بن عوف الأزدي في قول، وقيل: بل الذي شتى هذه السنة عمرو بن محرز، وقيل: بل عبد الله بن قيس الفزاري، وقيل: بل مالك بن عبد الله.
    ● [ ذكر ولاية ابن زياد البصرة ] ●

    في هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبيد الله بن زياد.
    وكان سبب ذلك: أن عبد الله خطب على منبر البصرة فحصبه رجل من بني ضبة فقطع يده، فأتاه بنو ضبة وقالوا: إن صاحبنا جنى ما جنى وقد عاقبته ولا نأمن أن يبلغ خبرنا أمير المؤمنين فيعاقب عقوبة تعم، فاكتب لنا كتاباً إلى أمير المؤمنين يخرج به أحدنا إليه يخبره أنك قطعت على شبهة وأمر لم يتضح. فكتب لهم، فلما كان رأس السنة توجه عبد الله إلى معاوية ووافاه الضبيون بالكتاب وادعوا أنه قطع صاحبهم ظلماً. فلما رأى معاوية الكتاب قال: أما القود من عمالي فلا سبيل إليه ولكن أدي صاحبكم من بيت المال. وعزل عبد الله عن البصرة واستعمل ابن زياد عليها، فولى ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي، فلم يغزو ولم يغز ولم يفتح بها شيئاً.
    ● [ ذكر عدة حوادث ] ●

    وفيها عزل معاوية عبد الله بن خالد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس، وقيل ما تقدم. وفيها مات الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وهو الذي كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يختفي في داره بمكة، وكان عمره ثمانين سنة وزيادة، وقيل: مات يوم مات أبو بكرة. وفيها توفي أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، وهو بدري، وشهد صفين مع علي، وقيل: توفي قبل. وحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم.
    ● ● [ ثم دخلت سنة ست وخمسين ] ● ●

    فيها كان مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود. وقيل: غزا فيها في البحر يزيد بن شجرة، وفي البر عياض بن الحارث، واعتمر معاوية فيها في رجب، وحج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
    ● [ ذكر البيعة ليزيد بولاية العهد ] ●

    وفي هذه السنة بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية عهد أبيه.
    وكان ابتداء ذلك وأوله من المغيرة بن شعبة، فإن معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة ويستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك فقال: الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية. فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبداً. ومضى حتى دخل على يزيد وقال له: إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة. قال: أوترى ذلك يتم؟ قال: نعم.
    فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة، فأحضر المغيرة وقال له ما يقول يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له فإن حدث بك حادثٌ كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال: ومن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زيادٌ أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. قال: فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى. فودعه ورجع إلى أصحابه. فقالوا: مه؟ قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمه محمد وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً؛ وتمثل:
    بمثلي شاهدي النجوى وغالي ... بي الأعداء والخصم الغضابا
    وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد، فأجابوا إلى بيعته، فأوفد منهم عشرة، ويقال أكثر من عشرة، وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة، وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم. ثم قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً. قال: لقد هان عليهم دينهم.
    وقيل: أرسل أربعين رجلاً وجعل عليهم ابنه عروة، فلما دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنما أشخصهم إليه النظر لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا أمير المؤمنين كبرت سنك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علماً وحد لنا حداً ننتهي إليه. فقال: أشيروا علي. فقالوا: نشير بيزيد ابن أمير المؤمنين. فقال: أوقد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذلك رأيكم؟ قالوا: نعم، ورأي من وراءنا. فقال معاوية لعروة سراً عنهم. بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بأربعمائة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً. وقال لهم: ننظر ما قدمتم له ويقضي الله ما أراد، والأناة خير من العجلة. فرجعوا.
    وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد، فأرسل إلى زياد يستشيره، فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدع بهم خصلتان: إذاعة السر وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابها، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه، وقد خبرتهما منك، وقد دعوتك لأمرٍ اتهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا، وإنه يتخوف نفرة الناس ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين وأد إليه فعلات يزيد وقل له رويدك بالأمر، فأحرى أن يتم لك ما تريد، لا تعجل فإن دركاً في تأخير خيرٌ من فوت في عجلة.
    فقال له عبيد: أفلا غير هذا؟ قال: وما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغض إليه ابنه، وألقى أنا يزيد فأخبره أن أمير المؤمنين كتب إليك يستبشرك في البيعة له، وأنك تتخوف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة على الناس ويتم ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت مما تخاف من أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش، وتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم.
    فقدم على يزيد فذكر ذلك له، فكف عن كثير مما كان يصنع، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتؤدة وأن لا يعجل، فقبل منه.
    فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد، فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم، فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد أن ديني عندي إذن لرخيص. وامتنع.
    ثم كتب معاوية بعد ذلك إلى مروان بن الحكم: إني قد كبرت سني، ودق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك، فاعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردون عليك. فقام مروان في الناس فأخبرهم به، فقال الناس: أصاب ووفق، وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألو.
    فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فأعاد إليه الجواب يذكر يزيد، فقام مروان فيهم وقال: إن أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل، وقد استخلف ابنه يزيد بعده.
    فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان وكذب معاوية! ما الخيار أردتما لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: (والذي قال لوالديه أفٍ لكما) الأحقاف: 17 الآية.
    فسمعت عائشة مقالته فقامت من وراء الحجاب وقالت: يا مروان يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه. فقالت: أنت القائل لعبد الرحمن إنه نزل فيه القرآن؟ كذبت! والله ما هو به ولكنه فلان بن فلان، ولكنك أنت فضضٌ من لعنة نبي الله.
    وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر وابن الزبير، فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب إلى عماله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو ابن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمد بن عمرو لمعاوية: إن كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فانظر من تولي أمر أمة محمد. فأخذ معاوية بهرٌ حتى جعل يتنفس في يوم شاتٍ ثم وصله وصرفه، وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد، فدخل عليه، فلما خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً.
    ثم إن معاوية قال للضحاك بن قيس الفهري، لما اجتمع الوفود عنده: إني متكلم فإذا سكت فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثني عليها. فلما جلس معاوية للناس تكلم فعظم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر، ثم ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته، فعارضه الضحاك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين إنه لابد للناس من والٍ بعدك، وقد بلونا الجماعة والألفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخيراً في العاقبة، والأيام عوج رواجع، والله كل يوم في شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً، وأبعدنا رأياً، فوله عهدك واجعله لنا علماً بعدك ومفزعاً نلجأ إليه ونسكن في ظله.
    وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك. ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء. وتكلم من حضر من الوفود.
    فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت يا أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله تعالى وللأمة رضى فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا. وقام رجل من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية وإنما عندنا سمع وطاعة وضرب وازدلاف.
    فتفرق الناس يحكون قول الأحنف، وكان معاوية يعطي المقارب ويداري المباعد ويلطف به حتى استوثق له أكثر الناس وبايعه. فلما بايعه أهل العراق والشام سار إلى الحجاز في ألف فارس، فلما دنا من المدينة لقيه الحسين بن علي أول الناس، فلما نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً! بدنة يترقرق دمها والله مهريقه! قال: مهلاً فإني والله لست بأهل لهذه المقالة! قال: بلى ولشر منها. ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً! خب ضب تلعة، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ويدق ظهره، نحياه عني، فضرب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً! شيخ قد خرف وذهب عقله؛ ثم أمر فضرب وجه راحلته، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبون، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟ وما أظن قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بواثق تجتث أصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر؛ ثم أنشد متمثلاً:
    قد كنت حذرتك آل المصطلق ... وقلت يا عمرو أطعني وانطلق
    إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرك مني من خلق
    دونك ما استسقيته فاحس وذق
    ثم دخل على عائشة، وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه، فقال: لأقتلنهم إن لم يبايعوا، فشكاهم إليها، فوعظته وقالت له: بلغني أنك تتهددهم بالقتل، فقال: يا أم المؤمنين هم أعز من ذلك ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمت؟ قالت: فارفق بهم فإنهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك، وقد فعلت بأخي ما فعلت؟ تعني أخاها محمداً. فقال لها: كلا يا أم المؤمنين، إني في بيت أمن. قالت: أجل.
    ومكث بالمدينة ما شاء الله ثم خرج إلى مكة فلقيه الناس، فقال أولئك النفر: نتلقاه فلعله قد ندم على ما كان منه، فلقوه ببطن مر، فكان أول من لقيه الحسين، فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا ابن رسول الله وسيد شباب المسلمين! فأمر له بدابة فركب وسايره، ثم فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة، فكانوا أول داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً، حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره، فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبكم وما صنعه إلا لما يريد. فأعدوا له جواباً فاتفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير.
    فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمكم وأردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك.. فسكتوا. فقال: ألا تجيبون؟ مرتين.
    ثم أقبل علي بن الزبير، فقال: هات لعمري إنك خطيبهم. فقال: نعم، نخيرك بين ثلاث خصال. قال: اعرضهن. قال: تصنع كما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع أبو بكر أو كما صنع عمر. قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر. قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الاختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فإنه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإني قد أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، إني كنت أخطب فيكم فيقوم إلي القائم منكم فيكذبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة فأقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلا على نفسه.
    ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتز أمر دونهم ولا يقضى إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله! فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلم أرضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردوا على الرجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل.
    وبايعه أهل المدينة، ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم، فأتاه ابن عباس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إن صاحبكم لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية إني لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلهم خوارج عليك. قال: يا أبا العباس تعطون وترضون وترادون.
    وقيل: إن ابن عمر قال لمعاوية: أبايعك على أني أدخل فيما تجتمع عليه الأمة، فوالله لو اجتمعت على حبشي لدخلت معها! ثم عاد إلى منزله فأغلق بابه ولم يأذن لأحد.
    قلت: ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر لا يستقيم على قول من يجعل وفاته سنة ثلاث وخمسين، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت.
    ● [ ذكر عزل ابن زياد عن خراسان ] ●
    واستعمال سعيد بن عثمان بن عفان

    في هذه السنة استعمل معاوية سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان وعزل ابن زياد.
    وسبب ذلك أنه سأل معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد. فقال: والله لقد اصطنعك أبي حتى بلغت باصطناعة المدى الذي لا تجارى إليه ولا تسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته وقدمت هذا - يعني يزيد - وبايعت له، والله لأنا خير منه أباً وأماً ونفساً! فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق عليك الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني قد طلبت بدمه، وأما فضل أبيك على أبيه فهو والله خير مني، وأما فضل أمك على أمه فلعمري امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة ملئت رجالاً مثلك. فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، قد عتب عليك فأعتبه.
    فولاه حرب خراسان، وولى إسحاق بن طلحة خراجها، وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق فولي سعيد حربها وخراجها، فلما قدم خراسان قطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه الصغد فتواقفوا يوماً إلى الليل ولم يقتتلوا، فقال مالك بن الريب:
    ما زلت يوم الصغد ترعد واقفاً ... من الجبن حتى خفت أن تنتصرا
    فلما كان من الغد اقتتلوا فهزمهم سعيد وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهناً منهم خمسين غلاماً من أبناء عظمائهم، فسار إلى ترمذ ففتحها صلحاً ولم يف لأهل سمرقند وجاء بالغلمان معه إلى المدينة. وكان ممن قتل معه قثم بن عباس بن عبد المطلب.
    وفي هذه السنة ماتت جويرية بنت الحارث زوج النبي، صلى الله عليه وسلم.
    ● ● [ ثم دخلت سنة سبع وخمسين ] ● ●

    فيها كان مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم.
    وفيها عزل مروان بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان، وقيل: لم يعزل مروان هذه السنة. وحج بالناس الوليد بن عتبة. وكان العامل على الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان. وفي هذه السنة مات عبد الله بن عامر، وقيل: سنة تسع وخمسين. وعبد الله بن قدامة السعدي، وله صحبة، وقيل: هو عبد الله بن عمرو بن وقدان السعدي، وإنما قيل له السعدي لأن أباه استرضع في بني سعدي بن بكر، وهو من بني عامر بن لؤي. وعثمان بن شيبة بن أبي طلحة العبدري، وهو جد بني شيبة سدنة الكعبة ومفتاحها معهم إلى الآن، وأسلم يوم الفتح، وقيل يوم حنين، وجبير بن مطعم بن نوفل القرشي، له صحبة. وأم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بقيت إلى قتل الحسين.
    ● ● [ ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ] ● ●

    في هذه السنة غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم وعمرو بن يزيد الجهني في البحر، وقيل: جنادة بن أبي أمية.
    ● [ ذكر عزل الضحاك عن الكوفة ] ●
    واستعمال ابن أم الحكم

    وفي هذه السنة عزل معاوي الضحاك بن قيس عن الكوفة واستعمل عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن أم الحكم، وهو ابن أخت معاوية.
    وفي عمله هذه السنة خرجت الخوارج الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم فجمعهم حيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جوين الطائي فخطباهم وحثاهم على الجهاد، فبايعوا حيان بن ظبيان وخرجوا إلى بانقيا، فسار إليهم الجيش من الكوفة فقتلوهم جميعاً.
    ثم إن عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الكوفة لسوء سيرته، فلحق بخاله معاوية فولاه مصر، فاستقبله معاوية بن حديج على مرحلتين من مصر، فقال له: ارجع إلى خالك، فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة! فرجع إلى معاوية.
    ثم إن معاوية بن حديج وفد إلى معاوية، وكان إذا قدم إلى معاوية زينت له الطرق بقباب الريحان تعظيماً لشأنه، فدخل على معاوية وعنده أخته أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: بخ بخ! هذا معاوية بن حديج. قالت: لا مرحباً، تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! فسمعها معاوية بن حديج فقال: على رسلك يا أم الحكم، والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة وما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضرباً يطأطىء منه، ولو كره هذا القاعد، يعني خاله معاوية. فالتفت إليها معاوية وقال: كفي، فكفت.
    ● [ ذكر خروج طواف بن غلاقٍ ] ●

    كان قوم من الخوارج بالبصرة يجتمعون إلى رجل اسمه جدار فيتحدثون عنده ويعيبون السلطان، فأخذهم ابن زياد فحبسهم ثم دعا بهم وعرض عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً ويخلي سبيل القاتلين، ففعلوا، فأطلقهم، وكان ممن قتل طواف، فعذلهم أصحابهم وقالوا: قتلتم إخوانكم! قالوا: أكرهنا وقد يكره الرجل على الكفر وهو مطمئن بالإيمان.
    وندم طوافٌ وأصحابه، فقال طواف: أما من توبة؟ فكانوا يبكون، وعرضوا على أولياء من قتلوا الدية فأبوا، وعرضوا عليهم القود فأبوا، ولقي طوافٌ الهثهاث بن ثور السدوسي فقال له: أما ترى لنا من توبة؟ فقال: ما أجد لك إلا آية في كتاب الله، عز وجل، قوله: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ) النحل:110. فدعا طواف أصحابه إلى الخروج وإلى أن يفتكوا بابن زياد، فبايعوه في سنة ثمان وخمسين، وكانوا سبعين رجلاً من بني عبد القيس بالبصرة، فسعى بهم رجلٌ من أصحابهم إلى ابن زياد، فبلغ ذلك طوافاً فعجل الخروج، فخرجوا من ليلتهم فقتلوا رجلاً ومضوا إلى الجلحاء، فندب ابن زياد الشرط البخارية، فقاتلوهم، فانهزم الشرط حتى دخلوا البصرة واتبعوهم، وذلك يوم عيد الفطر، وكثرهم الناس فقاتلوا فقتلوا، وبقي طواف في ستة نفر، وعطش فرسه فأقحمه الماء، فرماه البخارية بالنشاب حتى قتلوه وصلبوه، ثم دفنه أهله؛ فقال شاعر منهم:
    يا رب هب لي التقى والصدق في ثبتٍ ... واكف المهم فأنت الرزاق الكافي
    حتى أبيع التي تفنى بآخرةٍ ... تبقى على دين مرداسٍ وطواف
    وكهمس وأبي الشعثاء إذ نفروا ... إلى الإله ذوي اخباب زحاف
    ● [ ذكر قتل عروة بن أدية ] ●
    وغيره من الخوارج

    في هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج فقتل منهم جماعةً كثيرة، منهم: عروة بن أدية أخو أبي بلال مرداس بن أدية، وأدية أمهما، وأبوهما حدير، وهو تميمي.
    وكان سبب قتله أن ابن زياد كان قد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع إليه الناس وفيهم عروة، فأقبل على ابن زياد يعظه، وكان مما قال له: (أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين) الشعراء: 128 - 130. فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يقل ذلك إلا ومعه جماعة، فقام وركب وترك رهانه. فقيل لعروة: ليقتلنك! فاختفى، فطلبه ابن زياد فهرب وأتى الكوفة، فأخذ وقدم به على ابن زياد، فقطع يديه ورجليه وقتله، وقتل ابنته.
    وأما أخوه أبو بلال مرداس فكان عابداً مجتهداً عظيم القدر في الخوارج، وشهد صفين مع علي فأنكر التحكيم، وشهد النهروان مع الخوارج، وكانت الخوارج كلها تتولاه، ورأى على ابن عامر قباء أنكره فقال: هذا لباس الفساق! فقال أبو بكرة: لا تقل هذا للسلطان فإن من أبغض السلطان أبغضه الله. وكان لا يدين بالاستعراض، ويحرم خروج النساء، ويقول: لا نقاتل إلا من قاتلنا ولا نجبي إلا من حمينا.
    وكانت البثجاء، امرأة من بني يربوع، تحرض على ابن زياد وتذكر تجبره وسوء سيرته، وكانت من المجتهدات، فذكرها ابن زياد، فقال لها أبو بلال: إن التقية لابأس بها فتغيبي فإن هذا الجبار قد ذكرك. قالت: أخشى أن يلقى أحدٌ بسبي مكروهاً. فأخذها ابن زياد فقطع يديها ورجليها، فمر بها أبو بلال في السوق فعض على لحيته وقال: أهذه أطيب نفساً بالموت منك يا مرداس؟ ما ميتةٌ أموتها أحب إلي من ميتة البثجاء! ومر أبو بلال ببعير قد طلي بقطران فغشي عليه ثم أفاق فتلا: (سرابيلهم من قطرانٍ وتغشى وجوههم النار) إبراهيم: 50.
    ثم إن ابن زياد ألح في طلب الخوراج فملأ منهم السجن وأخذ الناس بسببهم وحبس أبا بلال قبل أن يقتل أخاه عروة، فرأى السجان عبادته فأذن له كل ليلة في إتيان أهله، فكان يأتيهم ليلاً ويعود مع الصبح، وكان صديق مرداس إليه فأعلمه الخبر، وبات السجان بليلة سوء خوفاً أن يعلم مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يعود فيه إذا به قد أتى، فقال له السجان: أما بلغك ما عزم عليك الأمير؟ قال: بلى. قال: ثم جئت؟ قال: نعم، لم يكن جزاؤك مني مع إحسانك إلي أن تعاقب. وأصبح عبيد الله فقتل الخوارج، فلما أحضر مرداس قام السجان، وكان ظئراً لعبيد الله، فشفع فيه وقص عليه قصته، فوهبه له وخلى سبيله.
    ثم أنه خاف ابن زياد فخرج في أربعين رجلاً إلى الأهواز، فكان إذا اجتاز به مالٌ لبيت المال أخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ثم يرد الباقي، فلما سمع ابن زياد برهم بعث إليهم جيشاً عليهم أسلم بن زرعة الكلابي سنة ستين، وقيل: أبو حصين التميمي، وكان الجيش ألفي رجل، فلما وصلوا إلى أبي بلال ناشدهم الله أن يقاتلوه فلم يفعلوا، ودعاهم أسلم إلى معاودة الجماعة، فقالوا: أتردوننا إلى ابن زياد الفاسق؟ فرمى أصحاب أسلم رجلاً من أصحاب أبي بلال فقتلوه، فقال أبو بلال: قد بدؤوكم بالقتال. فشد الخوارج على أسلم وأصحابه شدة رجل واحد فهزموهم فقدموا البصرة، فلام ابن زياد أسلم وقال: هزمك أربعون وأنت في ألفين، لا خير فيك! فقال: لأن تلومني وأنا حي خير من أن تثني علي وأنا ميتٌ. فكان الصبيان إذا رأوا أسلم صاحوا به: أما أبو بلال وراءك! فشكا ذلك إلى ابن زياد، فنهاهم فانتهوا.
    وقال رجل من الخوارج:
    أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ... ويقتلهم بآسك أربعونا
    كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
    ذكر عدة حوادثوحج بالناس الوليد بن عتبة. في هذه السنة مات عقبة بن عامر الجهني، وله صحبة، وشهد صفين مع معاوية. وفيها توفيت عائشة، رضي الله عنها، وسمرة بن جندب، له صحبة. ومالك بن عبادة الغافقي، وله صحبة. وعميرة بن يثربي قاضي البصرة، واستقضي مكانه هشام بن هبيرة.
    ● ● [ ثم دخلت سنة تسع وخمسين ] ● ●

    في هذه السنة كان مشتى عمرو بن مرة الجهني بأرض الروم البر، وغزا في البحر جندة بن أبي أمية، وقيل: لم يكن في البحر غزوة هذه السنة. وفي هذه السنة عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري، وقد تقدم سبب عزله، وقيل: كان عزله سنة ثمان وخمسين.
    ● [ ذكر ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان ] ●

    وفيها استعمل معاوية عبد الرحمن بن زياد على خراسان، وقدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي، وأخذ أسلم بن زرعة فحبسه وأخذ منه ثلاثمائة ألف درهم، ثم قدم عبد الرحمن، وكان كريماً حريصاً ضعيفاً لم يغز غزوةً واحدة، وبقي بخراسان إلى أن قتل الحسين، فقدم على يزيد ومعه عشرون ألف ألف درهم، فقال: إن شئت حاسبناك وأخذنا ما معك ورددناك إلى عملك، وإن شئت أعطيناك ما معك وعزلناك وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم. قال: بل تعطيني ما معي وتعزلني. ففعل فأرسل عبد الرحمن إلى ابن جعفر بألف ألف وقال: هذه خمسمائة ألف من يزيد وخمسمائة ألف مني.
    ● [ ذكر عزل ابن زياد عن البصرة ] ●
    والعوده إليها

    في هذه السنة عزل معاوية عبيد الله بن زياد عن البصرة وأعاده إليها.
    وسبب ذلك أن ابن زياد وفد على معاوية في وجوه أهل البصرة وفيهم الأحنف، وكان سيء المنزلة من عبيد الله، فلما دخلوا رحب معاوية بالأحنف وأجلسه معه على سريره، فأحس القوم الثناء على ابن زياد والأحنف ساكت، فقال له معاوية: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال معاوية: انهضوا فقد عزلته عنكم واطلبوا والياً ترضونه؛ فلم يبق أحد إلا أتى رجلاً من بني أمية أو من أهل الشام والأحنف لم يبرح من منزله فلم يأت أحداً، فلبثوا أياماً، ثم جمعهم معاوية وقال لهم: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم والأحنف ساكت، فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقال: إن وليت علينا أحداً من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً، وإن وليت من غيرهم فانظر في ذلك. فرده معاوية عليهم وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه في مباعدته، فما هاجت الفتنة لم يف له غير الأحنف.
    ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميري
    بني زياد وما كان منه

    كان يزيد بن مفرغ الحميري مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه ابن مفرغ، وأصاب الجند الذين مع عباد ضيقٌ في علوفات دوابهم، فقال ابن مفرغ:
    ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ... فنعلفها دواب المسلمينا
    وكان عباد بن زياد عظيم اللحية، فقيل: ما أراد غيرك. فطلب فهرب منه وهجاه بقصائد، وكان مما هجاه به قوله:
    إذا أودى معاوية بن حربٍ ... فبشر شعب رحلك بانصداع
    فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
    ولكن كان أمراً فيه لبسٌ ... على وجلٍ شديدٍ وارتياع
    وقال أيضاً:
    ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... مغلغلةً من الرجل اليماني
    أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ... وترضى أن يقال أبوك زان
    فأشهد أن رحمك من زيادٍ ... كرحم الفيل من ولد الأتان
    وقدم يزيد بن مفرغ البصرة وعبيد الله بن زياد بالشام عند معاوية، فكتب إليه أخوه عباد بما كان منه، فأعلم عبيد الله معاوية به وأنشده الشعر واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فلم يأذن له وأمره بتأديبه.
    ولما قدم ابن مفرغ البصرة استجا بالأحنف وغيره من الرؤساء فلم يجره أحد، فاستجار بالمنذر بن الجارود فأجاره وأدخله داره، وكانت ابنته عند عبيد الله بن زياد، فلما قدم عبيد الله البصرة أخبر بمكان ابن مفرغ، وأتى المنذر عبيد الله مسلماً، فأرسل عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فأخذوا ابن مفرغ وأتوه به والمنذر عنده، فقال له المنذر: أيها الأمير إي قد أجرته! فقال: يا منذر يمدحك وأباك ويهجوني وأبي وتجبره علي! ثم أمر به فسقي دواء ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح في ثيابه، فقال يهجو المنذر:
    تركت قريشاً أن أجاور فيهم ... وجاورت عبد القيس أهل المشقر
    أناسٌ أجارونا فكان جوارهم ... أعاصير من فسو العراق المبذر
    فأصبح جاري من جذيمة نائماً ... ولا يمنع الجيران غير المشمر
    فقال لعبيد الله:
    يغسل الماء ما صنعت وقولي ... راسخٌ منك في العظام البوالي
    ثم سيره عبد الله إلى أخيه عباد بسجستان، فكلمت اليمانية بالشام معاوية فيه، فأرسل إلى عباد فأخذه من عنده، فقدم على معاوية وقال في طريقه:
    عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ... أمنت وهذا تحملين طليق
    لعمري لقد نجاك من هوة الردى ... إمامٌ وحبلٌ للإمام وثيق
    سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ ... ومثلي بشكر المنعمين حقيق
    فلما دخل على معاوية بكى وقال: ركب مني ما لم يرتكب من مسلم مثله على غير حدث، قال: أولست القائل:
    ألا أبلغ معاوية بن حربٍ
    القصيدة؟ فقال: لا والله الذي عظم حق أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قاله عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان واتخذني ذريعة إلى هجاء زياد. قال: ألست القائل:
    فأشهد أن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
    في أشعار كثيرة هجوت بها ابن زياد؟ اذهب فقد عفونا عنك فانزل أي أرض الله شئت. فنزل الموصل وتزوج بها. فلما كان ليلة بنائه بامرأته خرج حين أصبح إلى الصيد فلقي إنساناً على حمار. فقال: من أين أقبلت؟ فقال: من الأهواز. قال: فما فعل ماء مسرقان؟ قال: على حاله. فارتاح إلى البصرة فقدمها ودخل على عبيد الله فآمنه.
    وغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم فكلم فيه فقال: لا أرضى عنه حتى يرضى عنه ابن زياد. فقدم البصرة على عبيد الله وقال له:
    لأنت زيادةٌ في آل حربٍ ... أحب إلي من إحدى بناتي
    أراك أخاً وعماً وابن عمٍ ... فلا أدري بغيبٍ ما تراني
    فقال: أراك شاعر سوء! ورضي عنه.
    ● [ ذكر عدة حوادث ] ●

    حج بالناس هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان.
    وكان الوالي على الكوفة النعمان بن بشير، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة الوليد بن عتبة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، على سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور.
    وفيها مات قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري بالمدينة، وقيل: سنة ستين، وكان قد شهد مع علي مشاهده كلها. وفيها مات سعيد بن العاص، وولد عام الهجرة، وقتل أبوه يوم بدر كافراً. وفيها مات مرة بن كعب البهري السلمي، وله صحبة. وفيها مات أبو محذورة الجمحي مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة، ولم يزل يؤذن بها حتى مات وولده من بعده، وقيل: مات سنة تسع وستين. وفيها مات عبد الله بن عامر بن كريز بمكة فدفن بعرفات. وفيها مات أبو هريرة، فحمل جنازته ولد عثمان بن عفان لهواه كان في عثمان.
    وفيها غزا المسلمون حصن كمخ ومعهم عمير بن الحباب السلمي، فصعد عمير السور ولم يزل يقاتل عليه وحده حتى كشف الروم فصعد المسلمون، ففتحه بعمير، وبذلك كان يفتخر ويفخر له بذلك.

    الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين Fasel10

    مختصر الكامل في التاريخ لابن الأثير
    منتدى نافذة ثقافية - البوابة
    الأحداث من سنة خمس وخمسين إلى سنة تسع وخمسين E110


      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 23:59