من طرف فريق العمل الإثنين 29 أبريل 2019 - 7:37
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
الأحداث سنة ست عشرة
● [ ثم دخلت سنة ست عشرة ] ●
ذكر فتح المدائن الغربية وهي بهرسير
في هذه السنة في صفر دخل المسلمون بهرسير، وكان سعد محاصراً لها، وأرسل الخيول فأغارت على من ليس له عهد، فأصابوا مائة ألف فلاح، فأصاب كل واحد منهم فلاحاً لأن كل المسلمين كان فارساً، فأرسل سعد إلى عمر يستأذنه، فأجابه: إن من جاءكم من الفلاحين ممن لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به. فخلى سعد عنهم وأرسل إلى الدهاقين ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية ولهم الذمة، فتراجعوا ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادي إلا أمن واغتبط الإسلام.
وأقاموا على بهرسير شهرين يرمونهم بالمجانيق ويدبون إليهم بالدبابات ويقاتلوهم بكل عدة، ونصبوا عليها عشرين منجنيقاً فشغلوهم بها، وربما خرج العجم فقاتلوهم فلا يقومون لهم، وكان آخر ما خرجوا متجردين للحرب وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون. وكان على زهرة بن الحوية درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد. فقال لههم: إني على الله لكريم أن ترك سهم فارس الجند كلهم أن لا يؤمنني من هذا الفصم حيث يثبت في! فكان أول رجل أصيب من المسلمين يومئذٍ هو بنشابة من ذلك الفصم. فقال بعضهم: انزعوها. فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت في، لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة. فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل إصطخر فقتله، وأحيط به فقتل وما انكشفوا.
وقيل: إن زهرة عاش إلى أيام الحجاج فقتله شبيب الخارجي، وسيرد ذكره.
واشتد الحصار بأهل المدائن الغربية حتى أكلوا السنانير والكلاب وصبروا من شدة الحصار على أمر عظيم، فبينا هم يحاصرونهم إذا أشرف عليهم رسول الملك، فقال: الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة إلى جبلنا ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فقال لهم أبو مفرز الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله تعالى بما لا يدري ما هو ولا من معه. فرجع الرجل فقطعوا دجلة إلى المدائن الشرقية التي فيها الإيوان، فقال له من معه: يا أبا مفرز ما قلت له؟ قال: والذي بعث محمداً بالحق ما أدري وأنا أرجو أن أكون قد نطقت بالذي هو خيرٌ.
وسأله سعد والناس عما قال فلم يعلم. فنادى سعد في الناس، فنهدوا إليهم فما ظهر على المدينة أحد ولا خرج رجل إلا رجل ينادي بالأمان، فآمنوه، فقال لهم: ما بقي بالمدينة من يمنعكم. فدخلوا فما وجدوا فيها شيئاً ولا أحداً إلا أسارى وذلك الرجل، فأسألوه لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك غليكم يعرض عليكم الصلح فأجبتموه أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبداً حتى نأكل عسل أفريدون بأترج كوثى. فقال الملك: يا ويلتيه! إن الملائكة تتكلم على ألسنتهم ترد علينا.
فساروا إلى المدينة القصوى. فلما دخلها المسلمون أنزلهم سعد المنازل، وأرادوا العبور إلى المدائن فوجدوا المعابر قد أخذوها ما بين المدائن وتكريت.
● [ ذكر فتح المدائن التي فيها إيوان كسرى ] ●
وكان فتحها في صفر أيضاً سنة ست عشرة، قيل: وأقام سعد ببهرسير أياماً من صفر، فأتاه علجٌ فدله على مخاضة تخاض إلى صلب الفرس، فأبى وتردد عن ذلك، وقحمهم المد، وكانت السنة كثيرة المدود ودجلة تقذف بالزبد، فأتاه علجٌ فقال: ما يقيمك؟ لا يأتي عليك ثلاثة حتى يذهب يزدجرد بكل شيء في المدائن. فهيجه ذلك على العبور، ورأوا رؤيا: أن خيول المسلمين اقتحمت دجلة فعبرت، فعزم سعد لتأويل الرؤيا، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذا شاؤوا في سفنهم فيناوشونكم وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم، وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.
فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل. فندب الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس في ستمائة من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصماً، فقدمهم عاصم في ستين فارساً وجعلهم على خيل ذكور وإناث ليكون أسلس لسباحة الخيل، ثم اقتحموا دجلة. فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أخرجوا للخيل التي تقدمت مثلها فاقتحموا عليهم دجلة، فلقوا عاصماً وقد دنا من الفراض. فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون. فالتقوا فاطعنوا، وتوخى المسلمون عيونهم فولوا، ولحقهم المسلمون فقتلوا أكثرهم، ومن نجا منهم صار أعور من الطعن، وتلاحق الستمائة بالستين غير متعتين.
ولما رأى سعد عاصماً على الفراض قد منعها أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطىء شيء. وكان الذي يساير سعداً في الماء سلمان الفارسي، فعامت بهم خيولهم، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذللت لهم والله البحور كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً. فخرجوا منه كما قال سلمان لم يفقدوا شيئاً، ولم يغرق منهم أحد إلا أن مالك بن عامر العنبري سقط منه قدح فذهبت به جرية الماء فقال له الذي يسايره معيراً له: أصابه القدر فطاح. فقال: والله إني لعلى حالة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكرين. فلما عبروا ألقته الريح إلى الشاطىء فتناوله بعض الناس وعرفه صاحبه فأخذه. ولم يغرق منهم أحد غير أن رجلاً من بارق يدعى غرقدة زال عن ظهر فرس له أشقر، فثنى القعقاع عنان فرسه إليه فأخذ بيده فأخرجه سالماً فقال البارقي وكان من أشد الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع وكان للقعقاع فيهم خؤولة. وخرج الناس سالمين وخيلهم تنفض أعرافها.
فلما رأى الفرس ذلك وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان، وكان يزدجرد قد قدم عياله إلى حلوان قبل ذلك وخلف مهران الرازي والنخيرخان، وكان على بيت المال بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من خير متاعهم وخفيفه وما قدروا عليه من بيت المال وبالنساء والذراري وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف والأدهان ما لا يدرى قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة. وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف الف ألف، ثلاث مرات، أخذ منها رستم عند مسيره إلى القادسية النصف وبقي النصف. وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهي كتيبة عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء، وهي كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحداً يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم ليس في ذلك ما كان لآل كسرى.
ونزل سعد القصر الأبيض، وسرح سعد زهرة في آثارهم إلى النهروان، ومقدار ذلك من كل جهة. وكان سلمان الفارسي رائد المسلمين وداعيتهم، دعا أهل بهرسير ثلاثاً وأهل القصر الأبيض ثلاثاً، واتخذ سعد إيوان كسرى مصلى ولم يغير ما فيه من التماثيل. ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم، لا يبغي أحد إلا اشمخرت له جرثومة من الأرض يستريح عليها ما يبلغ الماء حزام فرسه، ولذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:
وأسلنا على المدائن خيلاً ... بحرها مثل برهن أريضا
فانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وخاض منها جريضا
ولما دخل سعد الإيوان قرأ: (كم تركوا من جناتٍ وعيونٍ وزروعٍ) إلى قوله: (قوماً آخرين) ؛ وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن ولا يصلي جماعة، وأتم الصلاة لأنه نوى الإقامة، وكانت أول جمعة بالعراق، وجمعت بالمدائن في صفر سنة ست عشرة.
ولما سار المسلمون وراءهم أدرك رجل من المسلمين فارسياً يحمي أصحابه فضرب فرسه ليقدم على المسلم، فأحجم وأراد الفرار فتقاعس، فأدركه المسلم فقتله وأخذ سلبه؛ وأدرك رجلٌ آخر من المسلمين جماعةً من الفرس يتلاومون وقد نصبوا لأحدهم كرةً وهو يرميها لا يخطئها، فرجعوا فلقيهم المسلم، فتقدم إليه ذلك الفارسي فرماه بأقرب مما كانت الكرة فلم يصبه، فوصل المسلم إليه فقتله وهرب أصحابه.
أبو بجيد بضم الباء الموحدة، وفتح الجيم، وبعدها ياء تحتها نقطتان، ودال مهملة.
● [ ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها ] ●
كان سعد قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلي، فجمع ما في القصر والإيوان والدور وأحصى ما يأتيه به الطلب، وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة وهربوا في كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب فأخذوا ما معهم، ورأوا بالمدائن قباباً تركية مملوة سلالاً مختومة برصاص فحسبوها طعاماً، فإذا فيها آنية الذهب والفضة، وكان الرجل يطوف ليبيع الذهب بالفضة متماثلين. ورأوا كافوراً كثيراً فحسبوه ملحاً، فعجنوا به فوجدوه مراً.
وأدرك الطلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه، فوقع منهم بغل في الماء فعجلوا وكبوا عليه، فقال بعض المسلمين: إن لهذا البغل لشأناً، فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه وفيه حلية كسرى، ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة. ولحق الكلج بغلين معهما فارسيان فقتلهما وأخذ البغلين فأبلغهما صاحب الأقباض، وهو يكتب ما يأتيه به الرجال، فقال له: قف حتى ننظر ما معك. فحط عنهما فإذا سفطان فيهما تاج كسرى مرصعاً، وكان لا يحمله إلا أسطوانتان وفيه الجوهر، وعلى البغل الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجاً منظوماً.
وأدرك القعقاع بن عمرو فارسياً فقتله وأخذ منه عيبتين وغلافين في إحداهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدراع، منها درع كسرى ومغافره ودرع هرقل ودرع خاقان ملك الترك ودرع داهر ملك الهند ودرع بهرام جوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان استلبها الفرس أيام غزاهم خاقان وهرقل وداهر، وأما النعمان وجوبين فحين هربا من كسرى، وفي أحد الغلافين سيوف من سيوف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان؛ فأحضر القعقاع الجميع عند سعد، فخيره بين الأسياف فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام ونفل سائرها في الخرساء، إلا سيف كسرى والنعمان، بعث بهما إلى عمر بن الخطاب لتسمع العرب بذلك وحسبوهما في الأخماس، وبعثوا بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون.
وأدرك عصمة بن خالد الضبي رجلين معهما حماران فقتل أحدهما وهرب الآخر، وأخذ الحمارين فأتى بهما صاحب الأقباض فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثفره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر، كان كسرى يضعهما على أسطوانتي التاج.
وأقبل رجل بحق إلى صاحب الأقباض فقال هو والذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: والله لولا الله ما أتيتكم به. فقالوا: من أنت؟ فقال: والله لا أخبركم فتحمدوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلاً، فسأل عنه فإذا عنه فإذا هو عامر ابن عبد قيس. وقال سعد: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر، لقد تتبعت من أقوام منهم هناتٍ ما أحسبها من هؤلاء.
وقال جابر بن عبد الله: والذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، فلقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كأمامنتهم وزهدهم، وهم: طليحة، وعمرو بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح. وقال عمر لما قدم عليه بسيف كسرى ومنطقته وبزبرجده: إن قوماً أدوا هذا لذوو أمانة. فقال عليك إنك عففت فعفت الرعية.
فلما جمعت الغنائم قسم سعد الفيء بين الناس خمسة، وكانوا ستين ألفاً، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفاً، وكلهم كان فارساً ليس فيهم راجل، ونفل من الأخماس في أهل البلاء، وقسم المنازل بين الناس، وأحضر العيالات فأنزلهم الدور، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ثم تحولوا إلى الكوفة. وأرسل سعد في الخمس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب، ومن كان يعجبهم أن يقع، وأراد إخراج خمس القطف فلم تعتدل قسمته، وهو بهار كسرى، فقال للمسلمين: هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه ينبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل وهو يقع من أهل المدينة موقعاً؟ فقالوا: نعم. فبعثه إلى عمر. والقطف بساط واحد طوله ستون ذراعاً، وعرضه ستون ذراعاً مقدار جريب، كانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه، فكأنهم في رياض، فيه طرق كالصور وفيه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة وخلال ذلك فصوص كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع والورق من الحرير على قضبان الذهب، وزهره الذهب والفضة، وثمره الجوهر وأشباه ذلك، وكانت العرب تسميه القطف.
فلما قدمت الأخماس على عمر نفل منها من غاب ومن شهد من أهل البلاء، ثم قسم الخمس في مواضعه، ثم قال: أشيروا علي في هذا القطف؛ فمن بين مشير بقبضه وآخر مفوض إليه. فقال له علي: لم يجعل الله علمك جهلاً ويقينك شكاً، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت، وإنك إن تبقه على هذا اليوم لم تعدم في غدٍ من يستحق به ما ليس له. فقال: صدقني ونصحتني، فقطعه بينهم، فأصاب علياً قطعةٌ منه فباعها بعشرين ألفاً، وما هي بأجود تلك القطع.
وكان الذي سار بالأخماس بشير بن الخصاصية والذي ذهب بالفتح حليس بن فلان الأسدي، والذي ولي القبض عمرو، والقسم سلمان، وأثنى الناس على أهل القادسية، فقال عمر: أولئك أعيان العرب.
ولما رأى عمر سيف النعمان سأل جبير بن مطعم عن نسب النعمان، فقال جبير: كانت العرب تنسبه إلى الأشلاء أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص، فجهل الناس عجم فقالوا لخم، فنلفه سيفه.
وولى عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه، وولى الخراج النعمان وسويداً ابني مقرن، سويداً على ما سقت الفرات، والنعمان على ما سقت دجلة، ثم استعفيا، فولى عملهما حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزني، ثم ولى عملهما بعد حذيفة بن النعمان وعثمان ابن حنيف.
خذيفة بن أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين.
● [ ذكر وقعة جلولاء وفتح حلوان ] ●
وفي هذه السنة كانت وقعة جلولاء. وسببها أن الفرس لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء، وافترقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وأهل الجبال وفارس تذامروا قالوا: لو افترقتم لم تجتمعوا أبداً، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نحب، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبلينا عذراً. فاحتفروا خندقاً واجتمعوا فيه على مهران الرازي، وتقدم يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرجال وخلف فيهم الأموال فأقاموا وأحاطوا خندقهم بحسك الحديد إلا طرقهم. فبلغ ذلك سعداً فأرسل إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو وعلى ميمنته مسعر بن مالك وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة وأجعل على ساقته عمرو بن مرة الجهني، وإن هزم الله الفرس فاجعل القعقاع بين السواد والجبل، وليكن الجند اثني عشر ألفاً.
ففعل سعدٌ ذلك، وسار هاشم من المدائن بعد قسمة الغنيمة في اثني عشر ألفاً، منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن كان ارتد ومن لم يرتد، فسار من المدائن فمر ببابل مهروذ، فصالحه دهقانها على أن يفرش له جريب الأرض دراهم، ففعل وصالحه، ثم مضى حتى قدم جلولاء فحاصرهم في خنادقهم وأحاط بهم، وطاولهم الفرس وجعلوا لا يخرجون إلا إذا أرادوا، وزاحفهم المسلمون نحو ثمانين يوماً، كل ذلك ينصر المسلمون عليهم، وجعلت الأمداد ترد من يزدجرد إلى مهران، وأمد سعد المسلمين، وخرجت الفرس وقد احتفلوا، فاقتتلوا، فأرسل الله عليهم الريح حتى أظلمت عليهم البلاد فتحاجزوا فسقط فرسانهم في الخندق، فجعلوا فيه طرقاً مما يليهم يصعد منه خيلهم فأفسدوا حصنهم. وبلغ ذلك المسلمين فنهضوا إليهم، وقاتلوهم قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير إلا أنه كان أعجل. وانتهى القعقاع بن عمرو من الوجه الذي زحف فيه إلى باب خندقهم فأخذ به وأمر منادياً فنادى: يا معاشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل الخندق وأخذ به فأقبلوا إليه ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما بذلك ليقوي المسلمين. فحملوا ولا يشكون بأن هاشماً في الخندق، فإذا هم بالقعقاع بن عمرو وقد أخذ به، فانهزم المشركون عن المجال يمنة ويسرة فهلكوا فيما أعدوا من الحسك، فعقرت دوابهم وعادوا رجالة واتبعهم المسلمون فلم يفلت منهم إلا من لا يعد، وقتل يومئذٍ منهم مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه فسميت جلولاء بما جللها من قتلاهم، فهي جلولاء الوقيعة. فسار القعقاع بن عمرو في الطلب حتى بلغ خانقين.
ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الري، وقدم القعقاع حلوان فنزلها في جند من الأفناء والحمراء، وكان فتح جلولاء في ذي القعدة سنة ست عشرة. ولما سار يزدجرد عن حلوان استخلف عليها خشرشنوم، فلما وصل القعقاع قصر شيرين خرج عليه خشرشنوم وقدم إليه الزينبي دهقان حلوان، فلقيه القعقاع، فقتل الزينبي وهرب خشرشنوم واستولى المسلمون على حلوان وبقي القعقاع بها إلى أن تحول سعد إلى الكوفة فلحقه القعقاع واستخلف على حلوان قباذ، وكان أصله خراسانياً.
وكتبوا إلى عمر بالفتح وبنزول القعقاع حلوان واستأذنوه في اتباعهم، فابى وقال: لوددت أن بين السواد وبين الجبل سداً لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. وأدرك القعقاع في اتباعه الفرس مهران بخانقين فقتله، وأدرك الفيرزان فنزل وتوغل في الجبل فتحامى، وأصاب القعقاع سبايا فأرسلهن إلى هاشم فقسمهن، فاتخذن فولدن، وممن ينسب إلى ذلك السبي أم الشعبي.
وقسمت الغنيمة وأصحاب كل واحد من الفوارس تسعة آلاف وتسعة من الدواب، وقيل: إن الغنيمة كانت ثلاثين ألف ألف وكان الخمس ستة آلاف ألف، فقسمها سلمان بن ربيعة، وبعث سعدٌ بالأخماس إلى عمر، وبعث الحساب مع زياد بن أبيه، فكلم عمر فيما جاء له ووصف له، فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل ما كلمتني به؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك! فقام في الناس بما أصابوا وما صنعوا وبما يستأنفون من الانسياح في البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع. فقال: إن جندنا أطلقوا بالفعال ألسنتنا.
فلما قدم الخمس على عمر قال: والله لا يجنه سقف حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن الأرقم يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عنه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموطن شكرٍ. فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، وبالله ما أعطى الله هذا قوماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم. ومنع عمر من قسمة السواد لتعذر ذلك بسبب الآجام والغياض ومغيض المياه، وما كان لبيوت النار ولسكك البرد، وما كان لكسرى ومن جامعه، وما كان لمن قتل، والأرحاء؛ وخاف أيضاً الفتنة بين المسلمين، فلم يقسمه ومنع من بيعه لأنه لم يقسم، واقروها حبيساً يولونها من أجمعوا عليه بالرضا، وكانوا لا يجمعون إلا على الأمراء، فلا يحل بيع شيء من أرض السواد ما بين حلوان والقادسية، واشترى جرير أرضاً على شاطىء الفرات، فرد عمر ذلك الشراء وكرهه.
● [ ذكر فتح تكريت والموصل ] ●
وفي هذه السنة فتحت تكريت في جمادى. وسبب ذلك أن الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت وخندق عليه ليحمي أرضه ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر والشهارجة، فبلغ ذلك سعداً فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن سرح إليه عبد الله بن المعتم واستعمل على مقدمته ربغي بن الأفكل، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلي وعلى ميسرته فرات بن حيان العجلي وعلى ساقته هانىء بن قيس وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة. فسار عبد الله إلى تكريت ونزل على الأنطاق فحصره ومن معه أربعين يوماً، فتزاحفوا أربعة وعشرين زحفاً، وكانوا أهون شوكة من أهل جلولاء، وأرسل عبد الله بن المعتم إلى العرب الذين مع الأنطاق يدعوهم إلى نصرته، وكانوا لا يخفون عليه شيئاً. ولما رأت الروم المسلمين ظاهرين عليهم تركوا أمراءهم ونقلوا متاعهم إلى السفن، فأرسلت تغلب وإياد والنمر إلى عبد الله بن المعتم بالخبر وسألوه الأمان وأعلموه أنهم معه، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فأسلموا. فأجابوه وأسلموا. فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا واقتلوا من قدرتم عليه.
ونهد عبد الله والمسلمون وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر وأخذوا الأبواب، فظن الروم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم مما يلي دجلة، فقصدوا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم سيوف المسلمين وسيوف الربعيين الذين أسلموا تلك الليلة، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر. وأرسل عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهما نينوى والموصل، تسمى نينوى الحصن الشرقي وتسمى الموصل الحصن الغربي، وقال: اسبق الخبر وسر ما دون القيل واحيي الليل، وسرح معه تغلب وإياد والنمر. فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح وصاروا ذمة. وقسموا الغنيمة فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف درهم، وسهم الراجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان وبالفتح مع الحارث بن حسان إلى عمر؛ وولى حرب الموصل ربعي ابن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.
وقيل: إن عمر بن الخطاب استعمل عتبة بن فرقد على قصد الموصل، وفتحها سنة عشرين، فأتاها فقاتله أهل نينوى، فأخذ حصنها، وهو الشرقي، عنوةً، وعبر دجلة، فصالحه أهل الحصن الغربي، وهو الموصل، على الجزية، ثم فتح المرج وبانهذار وباعذرا وحبتون وداسن وجميع معاقل الأكراد وقردى وبازبدى وجميع أعمال الموصل فصارت للمسلمين.
وقيل: إن عياض بن غنم لما فتح بلداً، على ما نذكره، أتى الموصل ففتح أحد الحصنين وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر ففتحه على الجزية والخراج، والله أعلم.
المعتم بضم الميم، وسكون العين المهملة، وآخره ميم مشددة.
● [ ذكر فتح ماسبذان ] ●
ولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغ سعداً أن آذين بن الهرمذان قد جمع جمعاً وخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدمته ابن الهذيل الأسدي وعلى مجنبتيه عبد الله بن وهب الراسي والمضارب بن فلان العجلي فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان فاقتتلوا، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيراً فضرب رقبته. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان، فأخذ ماسبذان عنوةً، فهرب أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد إلى الكوفة، فأرسل إليه فنزل الكوفة واستخلف على ما سبذان ابن الهذيل الأسدي، فكانت أحد فروج الكوفة.
وقيل: إن فتحها كان بعد وقعة نهاوند.
● [ ذكر فتح قرقيسيا ] ●
ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة فأمدوا هرقل على أهل حمص وبعثوا جنداً إلى أهل هيت كتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك في جند... وعلى جنبتيه ربعي بن عامر ومالك بن حبيب، أرسل سعد عمر ابن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند وجعل على مقدمته الحارث ابن يزيد العامري، فخرج عمر بن مالك في جنده نحو هيت فنازل من بها وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك اعتصامهم بخندقهم ترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم وخرج في نصف الناس فجاء قرقيسيا على غرة فأخذها عنوةً، فأجابوا إلى الجزية، وكتب إلى الحارث ابن يزيد: إن هم استجابوا فخل عنهم فليخرجوا وإلا فخندق على خندقهم خندقاً بأبوابه مما يليك حتى أرى رأيي. فراسلهم الحارث، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم وسار الحارث إلى عمر بن مالك.
وفيها غرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي إلى ناصع. وفيها تزوج ابن عمر صفية بنت أبي عبيد أخت المختار. وفيها حمى عمر الربذة لخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع في المحرم. وفيها كتب عمر التاريخ بمشورة علي بن أبي طالب.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد ابن ثابت. وكان عماله على البلاد الذين كانوا في السنة قبلها، وكان على حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة بن هرثمة، وقيل: كان على الحرب والخراج بها عتبة بن فرقد، وقيل: كان ذلك كله إلى عبد الله بن المعتم. وعلى الجزيرة عياض بن غنم.
مختصر الكامل في التاريخ لابن الأثير
منتدى نافذة ثقافية - البوابة