فريق العمل- Admin
- المساهمات : 2671
تاريخ التسجيل : 22/12/2013
من طرف فريق العمل الأربعاء 16 يناير 2019 - 9:45
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الحديث الشريف
جامع العلوم والحكم
● [ الحديث الخامس والأربعون ] ●
عَنْ جابر بن عبد الله أنَّه سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتحِ وهُوَ بمكَّةَ يَقُولُ : ( إنَّ الله ورَسُولَهُ حرَّمَ (1) بَيعَ الخَمْرِ والمَيتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ ) فقيلَ : يا رَسولَ الله أرأيتَ شُحومَ المَيتَةِ ، فإنَّهُ يُطلَى بِها السُّفُنُ ، ويُدهَنُ بِها الجُلُودُ ، ويَستَصبِحَ بِها النَّاسُ ؟ قَالَ : ( لا ، هُوَ حَرامٌ ) ، ثمَّ قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذلك : ( قَاتَل الله اليَهودَ ، إنَّ الله حَرَّمَ عليهِمُ الشُّحومَ ، فأَجْمَلوهُ ، ثمَّ باعُوه ، فأَكَلوا ثَمَنَه ).
خرَّجه البُخاريُّ (2) ومُسلمٌ (3) .
__________
(1) قال ابن حجر : ( قوله : ( إنّ الله ورسوله حرم ) هكذا وقع في الصحيحين بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد وكان الأصل ( حرما ) فقال القرطبي : إنَّه - صلى الله عليه وسلم - تأدب فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين ؛ لأنَّه من نوع مارد به على الخطيب الذي قال : ( ومن يعصهما ) كذا قال ، ولم تتفق الرواة في هذا الحديث على ذلك فإن في بعض طرقه في الصحيح ( إن الله حرم ) ليس فيه و( رسوله ) ، وفي رواية لابن مردويه من وجه آخر عن الليث ( إن الله ورسوله حرما ) ، وقد صح حديث أنس في النهي عن أكل الحُمر الأهلية ( إن الله ورسوله ينهيانكم ) ووقع في رواية النسائي في هذا الحديث ( ينهاكم ) والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا ، ووجه الإشارة إلى أنّ أمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ناشيء عن أمر الله ، وهو نحو قوله : { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوه } [التوبة: 62] والمختار في هذا أن الجملة الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عند سيبويه : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه وهو كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ . ـدك راض والرأي مختلف
وقيل : أحق أن يرضوه خبر عن الاسمين ؛ لأنَّ الرسول تابع لأمر الله ) . انظر : فتح الباري 4/536 عقيب ( 2236 ) .
(2) في " صحيحه " 3/110 ( 2236 ) و5/190 ( 4296 ) و6/72 ( 4633 ).
وأخرجه : أبو داود ( 3486 ) ، وابن ماجه ( 2167 ) ، والترمذي ( 1297 ) ، والنسائي 7/177 و309 - 310 ، والروايات مطولة ومختصرة .
(3) في " صحيحه " 5/41 ( 1581 ) ( 71 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
الشرح
هذا الحديث خرّجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء ، عن جابر . وفي رواية لمسلم (1) أنْ يزيد قال : كتب إليَّ عطاء ، فذكره ، ولهذا قال أبو حاتم الرازي (2) : لا أعلم يزيدَ بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئاً ، يعني أنَّه إنَّما يروي عنه كتابَه ، وقد رواه أيضاً يزيدُ بنُ أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد بن عبدة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .
وفي " الصحيحين " (3) عن ابن عباس قال : بلغ عمرَ أنَّ رجلاً باع خمراً ، فقال : قاتله الله ، ألم يعلم أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قاتلَ الله اليهودَ ، حُرِّمَتْ عليهمُ الشُّحومُ ، فجَمَلوها فباعُوها ) ، وفي رواية : ( وأكلُوا أثمانها ) .
__________
(1) تقدم تخريجها .
(2) في " العلل " 2/51 عقيب ( 1140 ) .
(3) صحيح البخاري 3/107 ( 2223 ) ، وصحيح مسلم 5/41 ( 1582 ) ( 72 ).
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج أبو داود (1) من حديث ابن عباسٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، وزاد فيه : ( وإنَّ الله إذا حرَّم أكلَ شيءٍ ، حرَّم عليهم ثمنه ) ، وخرَّجه ابن أبي شيبة (2) ، ولفظه : ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ) .
وفي "الصحيحين" (3) عن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( قاتَلَ الله يهوداً، حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ ، فباعُوها وأكلوا أثمانها ) .
وفي " الصحيحين " (4) عن عائشة ، قالت : لما أُنزِلَت الآياتُ من آخر سورة البقرة ، خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاقترأهُنَّ على الناس ، ثم نهى عن التِّجارة في الخمر ، وفي رواية لمسلم (5) : لمَّا نزلتِ الآياتُ من آخر سورة البقرة في الرِّبا ، خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد ، فحرَّم التجارة في الخمر .
وخرَّج مسلم (6) من حديث أبي سعيد ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله حرَّم الخمر ، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيءٌ ، فلا يشرب ولا يبع ) . قال : فاستقبل الناسُ بما كان عندهم منها في طريق المدينة ، فسفكوها .
__________
(1) برقم ( 3488 ) ، وهو حديث صحيح .
(2) في " مصنفه " 5/46 .
(3) صحيح البخاري 3/107 ( 2224 )، وصحيح مسلم 5/41 ( 1583 ) ( 73 ) و( 74 ).
(4) صحيح البخاري 1/124 (459) و3/77 ( 2084 ) ، وصحيح مسلم 5/40 ( 1580 ) ( 69 ) .
(5) في " صحيحه " 5/40 ( 1580 ) ( 70 ) عن عائشة ، به .
(6) في " صحيحه " 5/39 ( 1578 ) ( 67 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وخرَّج أيضاً (1) من حديث ابن عباس أنَّ رجلاً أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر ، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هل عَلِمْت أنَّ الله قد حرَّمها ؟ ) قال : لا ، قال : فسارَّ إنساناً ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بِما سَارَرْتَه ؟ ) قال : أمرتُه ببيعها ، قال : ( إنَّ الذي حَرَّمَ شُربها حَرَّمَ بيعها ) ، قال : ففتح المزاد حتّى ذهب ما فيها .
فالحاصل من هذه الأحاديث كُلِّها أنَّ ما حرَّم الله الانتفاعَ به ، فإنَّه يحرم بيعُه وأكلُ ثمنه ، كما جاء مصرحاً به في الراوية المتقدمة : ( إنَّ الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه ) (2) ، وهذه كلمةٌ عامَّةٌ جامعة تَطَّرِدُ في كُلِّ ما كان المقصودُ من الانتفاع به حراماً ، وهو قسمان :
أحدهما : ما كان الانتفاعُ به حاصلاً مع بقاء عَينِه ، كالأصنامِ ، فإنَّ منفعتها المقصودة منها هوَ الشرك بالله ، وهو أعظمُ المعاصي على الإطلاق (3) ، ويلتحِقُ بذلك ما كانت منفعته محرَّمة ، ككتب الشِّركِ والسِّحر والبِدعِ والضَّلالِ ، وكذلك الصورُ المحرمةُ ، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور ، وكذلك شراءُ الجواري للغناء (4) .
وفي " المسند " (5)
__________
(1) في " صحيحه " 5/40 ( 1579 ) ( 68 ) عن عبد الله بن عباس ، به .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/7 - 8 عقيب ( 1581 ) ، وفتح الباري 4/537 عقيب ( 2236 ) .
(4) انظر : كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار : 330 - 331 .
(5) مسند الإمام أحمد 5/257 .
وأخرجه : أحمد بن منيع كما في " إتحاف الخيرة " ( 5107 ) ، والطيالسي ( 1134 ) ، والطبراني في " الكبير " ( 7803 ) جميعهم من طريق فرج بن فضالة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، به مرفوعاً ، وإسناد الحديث ضعيف جداً لضعف فرج بن فضالة وعلي بن يزيد الألهاني .
● [ الصفحة التالية ] ●
عن أبي أُمامة ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( إنَّ الله بعثني رحمةً وهُدى للعالمين ، وأمرني أنْ أمحق المزاميرَ والكنَّارات - يعني : البرابط والمعازف - والأوثان التي كانت تُعبد في الجاهلية ، وأقسم ربي بعزَّته لا يشرب عبدٌ من عبيدي جرعةً من خمر إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم ، معذباً أو مغفوراً له ، ولا يسقيها صبياً صغيراً إلا سقيته مكانَها من حميم جهنم ، معذباً أو مغفوراً له ، ولا يدعها عبدٌ من عبيدي من مخافتي إلاَّ سقيتها إيَّاه في حظيرةِ القُدُس ، ولا يحلُّ بيعُهُنَّ ولا شراؤُهُنَّ ، ولا تعليمُهُنَّ ، ولا تجارة فيهن ، وأثمانهم حرام ) يعني : المغنِّيات .
وخرَّجه الترمذي (1) ، ولفظه : لا تبيعوا القيناتِ ولا تشتروهن ، ولا تُعلِّموهُنَّ ، ولا خَيرَ في تِجارةٍ فيهن ، وثمنُهُنَّ حرام ، في مثل ذلك أنزل الله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } (2) الآية ، وخرَّجه ابنُ ماجه (3) أيضاً ، وفي إسناد الحديث مقال ، وقد رُوي نحوه من حديث عمر (4) وعليٍّ (5) بإسنادين فيهما ضعفٌ أيضاً .
__________
(1) في "جامعه" ( 1282 ) و( 3195 ) واستغربه . وهو ضعيف لضعف علي بن يزيد الألهاني .
(2) لقمان : 6 .
(3) برقم ( 2168 ) في إسناده أبو المهلب مطرح بن يزيد الكناني ضعيف وشيخه عبيد الله بن زحر الإفريقي كذلك وأيضاً فهو منقطع .
(4) أخرجه : الطبراني في " الكبير " ( 87 ) ، وانظر : مجمع الزوائد 4/91 .
(5) أخرجه : أبو يعلى ( 527 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
ومن يحرم الغناءَ كأحمد ومالك ، فإنَّهما يقولان : إذا بيعت الأمةُ المغنية ، تُباع على أنَّها ساذجةٌ ، ولا يُؤخذُ لغنائها ثمنٌ ، ولو كانت الجاريةُ ليتيمٍ ، ونصَّ على ذلك أحمد ، ولا يمنعُ الغناءُ من أصل بيع العبد والأمة ؛ لأنَّ الانتفاع به في غير الغناء حاصلٌ بالخدمة وغيرها ، وهو من أعظم مقاصدِ الرَّقيق (1) . نعم ، لو علم أنَّ المشتري لا يشتريه إلاّ للمنفعة المحرمة منه ، لم يجز بيعُه لهُ عندَ الإمام أحمد وغيره من العلماء ، كما لا يجوزُ عندهم بيعُ العصير ممن يتخذه خمراً ، ولا بيعُ السِّلاح في الفتنة ، ولا بيع الرَّياحين والأقداح لمن يعلم أنَّه يشربُ عليها الخمر ، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة (2) .
القسم الثاني : ما ينتفع به مع إتلاف عينه ، فإذا كان المقصود الأعظم منه محرماً ، فإنَّه يحرم بيعُه ، كما يحرمُ بيعُ الخنزير والخمر والميتة ، مع أنَّ في بعضها منافع غيرَ محرمة ، كأكل الميتة للمضطرِّ ، ودفع الغصَّة بالخمر ، وإطفاءِ الحريق به . والخرْز بشعر الخنْزير عند قوم ، والانتفاع بشعره وجلده عند من يرى ذلك ، ولكن لمَّا كانت هذه المنافعُ غيرَ مقصودة ، لم يعبأ بها ، وحرم البيعُ بكون المقصودِ الأعظم من الخنزير والميتة أكلَهما ، ومن الخمر شربَها ، ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك ، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى لمَّا قيل له : أرأيتَ شحومَ الميتةِ ، فإنَّه يُطلى بها السُّفُن ، ويُدهن بها الجُلودُ ، ويَستصبِحُ بها الناسُ ، فقال: ( لا ، هو حرام ) (3) .
__________
(1) انظر : المغني 4/307 .
(2) انظر : المغني 4/307 .
(3) سبق تخريجه .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو حرامٌ ) فقالت طائفة : أراد أنَّ هذا الانتفاعَ المذكور بشحوم الميتة حرام ، وحينئذٍ فيكونُ ذلك تأكيداً للمنع من بيع الميتة ، حيث لم يجعل شيئاً من الانتفاع بها مباحاً (1) .
وقالت طائفة : بل أرادَ أنَّ بيعها حرامٌ ، وإنْ كان قد ينتفع بها بهذه الوجوه ، لكن المقصود الأعظم من الشحوم هو الأكل ، فلا يُباحُ بيعُها لذلك .
وقد اختلفَ العلماءُ في الانتفاع بشحوم الميتة ، فرخَّص فيه عطاءٌ ، وكذلك نقل ابنُ منصورٍ عن أحمد وإسحاق ، إلاّ أنَّ إسحاقَ قال : إذا احتيجَ إليه ، وأمَّا إذا وُجِدَ عنه مندوحةٌ ، فلا ، وقال أحمد : يجوزُ إذا لم يمسه بيده ، وقالت طائفة : لا يجوزُ ذلك ، وهو قولُ مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وحكاه ابن عبد البرّ إجماعاً عن غير عطاء .
وأمَّا الأدْهانُ الطاهرة إذا تنجَّست بما وقع فيها من النجاسات ، ففي جواز الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلافٌ مشهور في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ، وفيه روايتان عن أحمد (2) .
وأما بيعُها ، فالأكثرون على أنَّه لا يجوزُ بيعُها ، وعن أحمد رواية : يجوز بيعُها من كافرٍ ، ويُعلم بنجاستها ، وهو مروىٌّ عن أبي موسى الأشعري ، ومن أصحابنا من خرَّج جوازَ بيعها على جواز الاستصباح بها وهو ضعيفٌ مخالفٌ لنصِّ أحمد بالتفرقة ، فإنَّ شحومَ الميتة لا يجوزُ بيعُها وإنْ قيل بجواز الانتفاع بها ، ومنهم من خرَّجه على القول بطهارتها بالغسل ، فيكون - حينئذٍ - كالثوب المتمضّخ بنجاسة . وظاهر كلام أحمد منعُ بيعها مطلقاً ؛ لأنَّه علل بأنَّ الدُّهنَ المتنجس فيهِ ميتة ، والميتة لا يُؤكل ثمنها (3) .
__________
(1) انظر : شرح النووي لصحيح مسلم 6/7 عقيب ( 1583 ) ، وفتح الباري 4/536 عقيب ( 2236 ) .
(2) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/17 - 18 .
(3) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/17 - 18 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وأما بقية أجزاءِ الميتة ، فما حُكِمَ بطهارته منها ، جاز بيعُه ، لجواز الانتفاع به ، وهذا كالشَّعر والقَرنِ عندَ من يقول بطهارتهما ، وكذلك الجلدُ عندَ من يرى أنَّه طاهر بغيرِ دباغ ، كما حُكي عن الزهري ، وتبويبُ البخاري يدلُّ عليهِ (1) ، واستدلَّ بقولِهِ : ( إنَّما حَرُم من الميتة أكلُها ) (2) . وأما الجمهور الذين يرون نجاسة الجلدِ قبل الدباغ ، فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذٍ ؛ لأنَّه جزءٌ من الميتة (3) ، وشذَّ بعضهم ، فأجاز بيعه كالثوب النجس ، ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسةُ ، وجلد الميتة جزءٌ منها ، وهو نجسُ العين . وقال سالمُ بنُ عبد الله بن عمر : هل بيعُ جلودِ الميتة إلاَّ كأكل لحمها ؟ وكرهه طاووس وعكرمة ، وقال النخعي : كانوا يكرهون أنْ يبيعوها ، فيأكلوا أثمانها .
وأما إذا دبغت ، فمن قال بطهارتها بالدبغ ، أجاز بيعها ، ومن لم ير طهارتها بذلك ، لم يُجِزْ بيعها . ونصَّ أحمد على منع بيعِ القمح إذا كان فيه بولُ الحمار حتى يُغسل ، ولعلَّه أراد بيعه ممَّن لا يعلم بحاله ، خشية أنْ يأكله ولا يعلم نجاسته .
وأما الكلب ، فقد ثبت في " الصحيحين " (4) عن أبي مسعود الأنصاري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب .
وفي " صحيح مسلم " (5) عن رافع بن خديج سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( شرُّ الكسب مَهْرُ البغيّ ، وثمن الكلب ، وكسب الحجام ) .
__________
(1) انظر : فتح الباري 4/537 عقيب ( 2236 ) .
(2) أخرجه : البخاري 2/158 ( 1492 ) ، ومسلم 1/190 ( 363 ) ( 100 ) و( 101 ) ، والنسائي 7/172 وفي " الكبرى " ، له ( 4561 ) و(4562 ) ، وابن حبان ( 1282 ) و( 1284 ) عن عبد الله بن عباس ، به .
(3) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 1/99 .
(4) صحيح البخاري 3/110 ( 2237 ) ، وصحيح مسلم 5/35 ( 1567 ) ( 39 ).
(5) 5/35 ( 1568 ) ( 40 ) .
● [ الصفحة التالية ] ●
وفيه عن معقل الجزري عن أبي الزبير ، قال : سألت جابراً عن ثمن الكلب والسِّنور ، فقال : زجر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (1) . وهذا إنّما يُعرف عن ابن لهيعة عن أبي الزبير . وقد استنكر الإمامُ أحمد رواياتِ مَعْقِلٍ عن أبي الزبير ، وقال : هي تشبه أحاديثَ ابنِ لهيعة ، وقد تُتُبِّعِ ذلك ، فوُجِدَ كما قاله أحمد رحمه الله .
وقد اختلف العلماءُ في بيع الكلب ، فأكثرهم حرَّموه ، منهم الأوزاعي ، ومالك في المشهور عنه ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ، وغيرهم (2) ، وقال أبو هريرة : هو سحت (3) ، وقال ابن سيرين : هو أخبثُ الكسب (4) . وقال عبدُ الرحمان بنُ أبي ليلى : ما أُبالي ثمن كلب أكلت أو ثمنَ خنْزير (5) . وهؤلاء لهم مآخذ :
أحدها : أنَّه إنّما نُهي عن بيعها لنجاستها (6) ، وهؤلاء التزموا تحريمَ بيع كلِّ نجسِ العين ، وهذا قولُ الشافعي ، وابن جرير ، ووافقهم جماعةٌ من أصحابنا ، كابنِ عقيل في " نظرياته " وغيره ، والتزموا أنَّ البغلَ والحمارَ إنَّما نجيز بيعهما إذا لم نقل بنجاستهما ، وهذا مخالفٌ للإجماع .
والثاني : أنَّ الكلبَ لم يُبح الانتفاعُ به واقتناؤه مطلقاً كالبغل والحمار ، وإنَّما أُبيحَ اقتناؤُه لحاجاتٍ مخصوصةٍ ، وذلك لا يُبيح بيعه كما لا تبيحُ الضرورةُ إلى الميتة والدم بَيعَهُما ، وهذا مأخذُ طائفةٍ من أصحابنا وغيرهم .
__________
(1) أخرجه : مسلم 5/35 ( 1569 ) ( 42 ) عن جابر بن عبد الله ، به .
(2) انظر : المغني 4/324 – 325 .
(3) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/347 .
(4) أخرجه : ابن أبي شيبة ( 36231 ) .
(5) أخرجه : ابن أبي شيبة 4/348 .
(6) انظر : المغني 4/325 .
● [ الصفحة التالية ] ●
والثالث : أنَّه إنَّما نُهي عن بيعه لخسَّته ومهانته ، فإنَّه لا قيمةَ له إلاَّ عند ذوي الشُّحِّ والمهانَةِ ، وهو متيسِّرُ الوجودِ ، فنُهي عن أخذ ثمنِه ترغيباً في المواساة بما يفضل منه عن الحاجة ، وهذا مأخذُ الحسن البصري وغيره من السَّلف ، وكذا قال بعضُ أصحابنا في النَّهي عن بيع السِّنَّورِ .
ورخَّصت طائفةٌ في بيع ما يُباح اقتناؤُه مِنَ الكلاب ، ككلب الصَّيد ، وهو قولُ عطاء والنَّخعي وأبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن مالك ، وقالوا : إنَّما نهي عن بيع ما يحرُمُ اقتناؤُه منها (1) . وروى حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور ، إلا كلب صيد ، خرَّجه النَّسائي (2) ، وقال : هو حديثٌ منكر ، وقال أيضاً : ليس بصحيح ، وذكر الدارقطني (3) أنَّ الصحيحَ وقفُه على جابر ، وقال أحمد : لم يصحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رخصةٌ في كلب الصيد ، وأشار البيهقي (4) وغيره إلى أنَّه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء ، فظنه من البيع، وإنَّما هو مِنَ الاقتناء ، وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بالقوي، ومن قال : إنَّ هذا الحديث على شرط مسلم - كما ظنَّه طائفةٌ من المتأخرين - فقد أخطأ ؛ لأنَّ مسلماً لم يخرِّج لحمَّاد بن سلمة ، عن أبي الزبير شيئاً ، وقد بيَّن في كتاب " التمييز " (5) أنَّ رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غيرُ قوية .
__________
(1) انظر : المغني 4/324 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/15 ، وفتح الباري 4/538 عقيب ( 2238 ) .
(2) في " المجتبى " 7/309 عن جابر بن عبد الله ، به .
(3) في " سننه " 3/73 .
(4) في " سننه " 6/6 - 7 .
(5) 170 - 171 .
● [ الصفحة التالية ] ●
فأمَّا بيعُ الهرِّ ، فقد اختلف العلماءُ في كراهته ، فمنهم من كرهه ، ورُوي ذلك عن أبي هريرة وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والأوزاعي ، وأحمد في رواية عنه ، وقال : هو أهونُ من جلود السِّباع ، وهذا اختيارُ أبي بكر من أصحابنا ، ورخص في بيع الهرِّ ابن عباس وعطاء في رواية والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه (1) ، وعن إسحاق روايتان ، وعن الحسن أنَّه كره بيعها ، ورخَّصَ في شرائها للانتفاع بها .
وهؤلاء منهم من لم يصحِّح النهي عن بيعها ، قال أحمد : ما أعلم فيه شيئاً يثبت أو يصحُّ ، وقال أيضاً : الأحاديث فيه مضطربةٌ .
ومنهم من حمل النهي على ما لا نفع فيه كالبرِّيِّ ونحوه (2) .
ومنهم من قال : إنَّما نهى عن بيعها ؛ لأنَّه دناءة وقلة مروءة ، لأنَّها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية ، فهي من مرافِق الناس التي لا ضررَ عليهم في بذل فضلها ، فالشُّحُّ بذلك مِنْ أقبحِ الأخلاق الذميمة ، فلذلك زجر عن أخذ ثمنها .
وأما بقية الحيوانات التي لا تُؤكل ، فما لا نفع فيه كالحشرات ونحوه لا يجوزُ بيعُه (3) ، وما يُذكر من نفع في بعضها ، فهو قليلٌ ، فلا يكون مبيحاً للبيع ، كما لم يبح النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيعَ الميتة لما ذكر له ما فيها من الانتفاع ، ولهذا كان الصحيحُ أنَّه لا يُباحُ بيعُ العلق لِمَصِّ الدم ، ولا الدِّيدان للاصطياد ونحو ذلك .
__________
(1) انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/10 .
(2) انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/10 ، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/678 .
(3) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/15 .
● [ الصفحة التالية ] ●
وأما ما فيه نفعٌ للاصطياد منها ، كالفهد والبازيِّ والصَّقر ، فحكى أكثرُ الأصحاب في جواز بيعها روايتين عن أحمد ، ومنهم من أجازَ بيعَها ، وذكر الإجماعَ عليه (1) ، وتأوَّل رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلى في " المجرد " (2) ، ومنهم من قال : لا يجوزُ بيع الفهد والنّسر ، وحكى فيه وجهاً آخر بالجواز ، وأجاز بيع البُزاة والصُّقور ، ولم يحكِ فيه خلافاً ، وهو قولُ ابن أبي موسى (3) .
وأجاز بيع الصقر والبازي والعُقاب ونحوه أكثرُ العلماء ، منهم : الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جوازُ بيعها ، وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن معلَّمة ، قال الخلاَّل : العمل على ما رواه الجماعة أنَّه يجوزُ بيعُها بكلِّ حالٍ .
وجعل بعضُ أصحابنا الفيلَ حكمه حكم الفهد ونحوه (4) ، وفيه نظر ، والمنصوص عن أحمد في رواية حنبل أنَّه لا يحِلُّ بيعه ولا شراؤه ، وجعله كالسَّبُع ، وحُكي عن الحسن أنَّه قال : لا يُركب ظهره ، وقال : هو مسخ ، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّه لا منفعةَ فيه .
__________
(1) انظر : شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/675 – 676 .
(2) هو: المجرد في الأصول للقاضي أبي يعلى محمد بن محمد بن الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458 ه . انظر : كشف الظنون 2/1593 .
(3) انظر : شرح الزركشي على مختصر الخرقي 3/675 – 676 .
(4) انظر : الشرح الكبير على متن المقنع 4/10 .
● [ الصفحة التالية ] ●
ولا يجوزُ بيعُ الدُّبِّ ، قاله القاضي في " المجرد " ، وقال ابن أبي موسى : لا يجوزُ بيعُ القردِ (1) ، قال ابن عبد البرِّ : لا أعلمُ في ذلك خلافاً بين العلماء ، وقال القاضي في " المجرد " : إنْ كان ينتفع به في موضع ، لحفظ المتاع ، فهو كالصَّقر والبازيِّ (2) ، وإلا ، فهو كالأسد لا يجوزُ بيعه ، والصحيح المنعُ مطلقاً ، وهذه المنفعة يسيرةٌ ، وليست هي المقصودة منه ، فلا تُبيح البيعَ كمنافعِ الميتة .
ومما نُهي عن بيعه جيفُ الكفار إذا قُتِلوا ، خرّج الإمام أحمد (3) من حديث ابن عباس قال : قتل المسلمون يوم الخندق رجلاً من المشركين ، فأعطوا بجيفته مالاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ادفعوا إليهم جيفَته ، فإنَّه خبيثُ الجيفة ، خبيثُ الدِّيةِ ) ، فلم يقبل منهم شيئاً . وخرَّجه الترمذي (4) ، ولفظه : إنَّ المشركين أرادوا أنْ يشتروا جَسَد رجلٍ من المشركين فأبى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبيعهم . وخرَّجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلاً ، ثم قال وكيع : الجيفة لا تُباع .
__________
(1) انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/11 .
(2) قال ابن قدامة : فأما بيعه لمن ينتفع كحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنَّه كالصَّقَر والبازي ، وهذا مذهب الشافعي . انظر : المغني 4/328 ، والشرح الكبير على متن المقنع 4/11 .
(3) في " مسنده " 1/248 ، وهو حديث ضعيف لضعف نصر بن باب ، وفيه عنعنة الحجاج بن أرطاة ، وهو مدلس .
(4) في " جامعه " ( 1715 ) ، وهو ضعيف أيضاً ؛ فإنَّ في إسناده محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى ، وهو ضعيف الحفظ جداً ، وهو منقطع أيضاً .
● [ الصفحة التالية ] ●
وقال حرب : قلت لإسحاق ، ما تقول في بيع جيف المشركين من المشركين(1) ؟ قال : لا . وروى أبو عمرو الشيباني أنَّ علياً أتي بالمستورد العجلي وقد تنصّر ، فاستتابه فأبى أنْ يتوبَ ، فقتله ، فطلبت النصارى جيفته بثلاثين ألفاً ، فأبى عليٌّ فأحرقه (2) .
__________
(1) في ( ص ) : ( أناخذ ثمنها ) بدل : ( من المشركين ) .
(2) أخرجه : عبد الرزاق ( 18710 ) ، والبيهقي 6/254 ، وصحح إسناده ابن التركماني في
" الجوهر النقي " 6/254 .
● [ تم شرح الحديث ] ●
جامع العلوم والحكم
لإبن رجب الحنبلي
منتدى ميراث الرسول . البوابة