من طرف فريق العمل الخميس 4 مايو 2017 - 10:20
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الأسرة
الفرج بعد الشدة
الباب الرابع
من استعطف غضب السلطان بصادق لفظ
واستوقف مكروهه بموقظ بيان أو وعظ
● [ بين المأمون وعمرو بن مسعدة ] ●
قرىء على أبي بكر محمد بن يحيى الصولي بالبصرة، وأنا حاضر أسمع، في كتابه الوزراء سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، قال: حدثني علي ابن محمد النوفلي: أن المأمون ذكر عمر بن مسعدة، فاستبطأه في أشياء، وقال: أيحسب عمرو أني لا أعرف أخباره، وما يجبى إليه، وما يعامل به الناس، بلى والله، ثم يظن أنه لا يسقط علي منه شيء، وكان أحمد بن أبي خالد حاضراً لذلك، فمضى إلى عمرو، فأخبره بما قال المأمون.
فنهض من ساعته، ودخل إلى المأمون، فرمى بسيفه، وقال: أنا عائذ بالله من سخط أمير المؤمنين، وأنا أقل من أن يشكوني إلى أحد، أو يسر علي ضغناً يظهر منه بكلامه ما ظهر.
فقال له المأمون: وما ذاك، فأخبره بما بلغه.
فقال: لم يكن الأمر كذلك، وإنما جرى معنىً أوجب ذكر ما ذكرت، فقدمته قبل أن أخبرك به، وكان ذلك عزمي، وما لك عندي إلا ما تحب، فليفرخ روعك، وليحسن ظنك، وسكن منه حتى شكره، وجعل ماء الحياة يدور في وجهه.
فلما دخل أحمد بن أبي خالد إلى المأمون، قال له: أشكو إليك من بحضرتي من خدمي وأهلي، أما لمجلسي حق ولا حرمة ليكتم ما يجري فيه، حتى يؤدى إلى عمرو بن مسعدة، فإنه قد أبلغ أشياء قلتها فيه، واتهمت فيها بعض بني هاشم ممن كان حاضراً، وذلك أن عمراً دخل علي، وأعاد ما كان، فاعتذرت له بعذر لم يبن الحق نسجه، ولم يتسق القول مني فيه، وإن لسان الباطل، لعي الظاهر والباطن، وما نعش الباطل أحداً قال له أحمد: لا يتهم أمير المؤمنين أحداً، أنا أخبرت عمراً، قال: وما دعاك إلى ذلك، قال: الشكر لله، ولك لاصطناعك، والنصح لك، والمحبة لتمام نعمتك على أوليائك وخدمك، وقد علمت أن أمير المؤمنين يحب استصلاح الأعداء والبعداء، فكيف بالأولياء والقرباء، ولا سيما مثل عمرو، في موضعه من الدولة، وموقعه من الخدمة، ومكانه من رأي أمير المؤمنين، فخبرته بما أنكره عليه، ليقوم أود نفسه، ويتلافى ما فرط منه، وإنما العيب لو أفشيت كلاماً فيه لأمير المؤمنين سر، أو قدح على السلطان، أو نقض تدبير له.
فقال له: أحسنت والله يا أحمد، إذ كفيتني مخاضة الظن، وصدقتني عن نفسك، وأزلت التهمة عن غيرك.
● [ بين الإمام جعفر الصادق والمنصور العباسي ] ●
وقع إلي هذا الخبر، على خلاف هذه السياقة، وجدته في بعض الكتب بغير إسناد: إن معاذاً، مولى إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس رحمهم الله، قال: كنت قائماً على رأس محمد بن إسماعيل، مولاي، ورزام، مولى محمد بن خالد بن عبد الله القسري، يحدثه، وكان كاتبه إذ ذاك، قال: وجهني محمد بن خالد القسري، لآتيه بجعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، من المدينة، إلى المنصور.
فلما صرنا بالنجف، نزل عن راحلته، وأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة، وصلى ركعتين، ثم رفع يديه إلى السماء، وأنا بالقرب منه، فسمعته يقول: اللهم بك أستفتح، وبك أستنجح، وبمحمد عبدك ورسولك أتوجه، اللهم إني أدرأ بك في نحره، وأعوذ بك من شره اللهم سهل لي حزونته، وذلل لي صعوبته، وأعطني من الخير أكثر مما أرجو، واكفني من الشر أكثر مما أخاف، ثم جاء فركب ومضى.
فلما قيل لأبي جعفر: إنه بالباب، أمر بالستور فرفعت، وبالأبواب ففتحت، ثم خرج إليه، فلقيه في منتصف الدار فعانقه أبو جعفر، وأخذ بيده يماشيه مقبلاً عليه، حتى انتهى إلى مجلسه، فأجلسه فيه، ثم أقبل عليه المنصور يسائله، وأقبل جعفر يدعو له ويفديه.
ثم إن المنصور قال له: عرفت ما كان من أمر هذين الرجلين، يعني محمداً وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، وما كان من بري بهما، وقد استترا، وخفت أن يشقا العصا، ويلقيا بين أهل هذا البيت شراً لا يصلح أبداً، فأخبرني بخبرهما، ودلني عليهما.
فقال له جعفر: قد والله نهيتهما فلم يقبلا، وكرهت أن أطلع على شيء من أمورهما، وما زلت مائلاً إليك، وحاطباً في حبلك، ومواظباً على طاعتك.
فقال له المنصور: صدقت، ولكنك تعلم، أني أعلم، أن علم أمرهما عندك، ولم أقنع إلا أن تخبرني بخبرهما وأمرهما.
فقال: يا أمير المؤمنين، أتلو عليك آية من كتاب الله عز وجل، فيها منتهى علمي بهما.
قال: هات، على اسم الله.
فتلا عليه: ( لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولّن الأدبار، ثمّ لا ينصرون ).
فخر المنصور ساجداً، وقال: حسبك. ولم يسأله بعد ذلك عن شيء من أمرهما.
وروي لي هذا الخبر على وجه آخر، حدثنا به علي بن الحسن، قال: حدثنا ابن الجراح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني عيسى بن أبي حرب الصفار، والمغيرة بن محمد، قالا: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: حدثني الحسن بن الفضل بن الربيع، قال: حدثني عبد الله بن الفضل ابن الربيع عن الفضل بن الربيع، قال: حدثني أبي، قال: حج أبو جعفر المنصور سنة سبع وأربعين ومائة، فلما قدم المدينة، قال لي: ابعث إلى جعفر بن محمد من يأتيني به بغتة، قتلني الله إن لم أقتله، فأمسكت عنه، رجاء أن ينساه، فأغلظ لي في الثانية.
فقلت: جعفر بن محمد بالباب يا أمير المؤمنين، قال: ائذن له، فأذنت له.
فلما دخل، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال: لا سلم الله عليك، يا عدو الله، تلحد في سلطاني، وتبغيني الغوائل في ملكي، قتلني الله إن لم أقتلك.
فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر، وأنت من ذلك السنخ ففكر طويلاً. ثم رفع رأسه، فقال: أنت عندي، يا أبا عبد الله، البريء الساحة، السليم الناحية، القليل الغائلة، جزاك الله عن ذي رحمك، أفضل ما يجزي ذوي الأرحام عن أرحامهم.
ثم تناول يده، فأجلسه على مفرشه، واستدعى بالمنفحة، والمنفحة مدهن كبير فيه غالية، فغلفه بيده، حتى قطرت لحيته.
ثم قال له: في حفظ الله وفي كلاءته، يا ربيع، ألحق أبا عبد الله جائزته وكسوته.
قال الربيع: فتبعته، فلما لحقته، قلت له: إني رأيت ما لم تر، وسمعت ما لم تسمع، ورأيت بعد ذلك ما قد رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك بشيء، فما الذي قلت، فقال: نعم، إنك رجل منا أهل البيت، ولك محبة ومودة، اعلم أنني قلت: أللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركتك الذي لا يرام، وأدركني برحمتك، واعف عني بقدرتك، لا أهلك وأنت رجائي، رب، كم من نعمة أنعمت بها علي، قل لك عندها شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليتني بها، قل لك عندها صبري فلم تخذلني، فيا من قل عند نعمه شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بيته صبري فلم يخذلني، يا من رآني على الخطايا فلم يهتكني، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبداً، ويا ذا النعماء التي لا تحصى عدداً، صل على محمد وعلى آل محمد، بك أدرأ في نحره، وأعوذ بك من شره، اللهم أعني على ديني بدنياي، وعلى آخرتي بتقواي، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرك، وأعطني ما لا ينقصك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، ورزقاً واسعاً، والعافية من جميع البلايا، وشكر العافية.
بين موسى الهادي وأحد كتابه
وذكر محمد بن عبدوس الجهشياري، في كتابه الوزراء: أن موسى الهادي سخط على بعض كتابه، ولم يسمه، فجعل يقرعه، ويؤنبه، ويتهدده، ويتوعده.
فقال له الكاتب: يا أمير المؤمنين، إن اعتذاري إليك فيما تقرعني به رد عليك، وإقراري بما بلغك عني، يوجب ذنباً لم أجنه، ولكني أقول كما قال الشاعر:
إذا كنت ترجو في العقاب تشفّيا ● فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
فصفح عنه، وأمر بترك التعرض له، وأحسن إليه، وصرفه مكرماً.
● [ ابن مقلة ينفذ من سجنه برقعة إلى الوزير ابن الفرات ] ●
حدثني علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، عن أبي عبد الله زنجي الكاتب، قال: لما نكب أبو الحسن بن الفرات، أبا علي بن مقلة، في وزارته الثالثة، لم أدخل إليه في الحبس، ولا كاتبه متوجعاً له، ولا راسلته بحرف، خوفاً من أن يرقى ذلك إلى ابن الفرات.
وكانت بيني وبين ابن مقلة مودة، فلما طال مكثه في الحبس، كتب إلي رقعة لطيفة، أولها:
ترى حرّمت كتب الأخلاّء بينهم ● أبن لي أم القرطاس أصبح غالياً
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ● وقـد دهـمـتـــنـــا نكبة هي ما هيا
صديق مـن راعاك عنه شديدة ● وكـــلٌّ تــراه في الرخـــاء مراعيا
فهبك عدوّي لا صديقي، فربّما ● يكـــاد الأعادي يرحمون الأعاديا
ثم أتبع ذلك بكلام عاتبني فيه، ويذكر أنه أنفذ إلي، في طي رقعته، رقعة إلى الوزير، وسألني عرضها عليه، في وقت خلوة لا يكون فيها ابنه أبو أحمد المحسن.
فقرأت الرقعة التي للوزير، فكان فيها: أقصرت أطال الله بقاء الوزير، وفعل به وصنع، عن الاستعطاف وعن الشكوى، حتى تناهت بي المحنة والبلوى، في النفس والمال، والجسم والحال، إلى ما فيه شفاء للمنتقم، وتقويم للمجترم، حتى أفضت بي، إلى الحيرة والتبلد، وبعيالي إلى الهتكة والتلدد، وما أقول إن حالاً أتاها الوزير- أيده الله- في أمري، إلا بحق واجب، وظن صادق غير كاذب، إلا أن القدرة تذهب الحفيظة، والاعتراف يزيل الاقتراف، ورب المعروف يؤثره أهل الفضل والدين، والإحسان إلى المسيء، من أفعال المتقين، وعلى كل حال، فلي ذمام وحرمة، وتأميل وخدمة، إن كانت الإساءة تضيعها، فرعاية الوزير- أيده الله- تحفظها، فإن رأى الوزير- أطال الله بقاءه- أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، ويتخلصها من العذاب الشديد، والجهد الجهيد، ويجعل له من معروفه نصيباً، ومن البلوى فرجاً قريباً، فعل، إن شاء الله.
فأقامت الرقعة في كمي أياماً، لا أتمكن من عرضها، إلى أن رسم لي الوزير ابن الفرات، كتب رقعة إلى جعفر بن القاسم، عامله على فارس، في مهم، وأن أحررها بين يديه، وأعرضها عليه، فأمرني بتحريرها وقد خلا، فاغتنمت خلوته من كل أحد، فقلت له: قد عرف الوزير- أيده الله- ما بيني وبين ابن مقلة، من العشرة والإلفة التي جمعتنا عليها خدمته، ووالله، ما كاتبته ولا راسلته، ولا قضيت له حقاً بمعونة ولا غيرها، منذ سخط الوزير- أيده الله- عليه، وهذه رقعته إلي تدل على ذلك، ويسأل عرض رقعة له على الوزير- أيده الله- وهي معي، فإن أذن عرضتها عليه.
فقال: هاتها.
فناولته إياها، قال: فقرأ رقعته إلي، ثم قال: هات رقعته إلي.
فقلت: أسأل الوزير - أيده الله - أن يكتم ذلك عن سيدي أبي أحمد - يعني المحسن ابنه - فإني أخافه.
فقال: أفعل.
فلما قرأ رقعة ابن مقل إليه قال: والله، يا أبا عبد الله، لقد تناهى هذا الرجل في السعاية على دمي، ومالي، وأهلي، ولقد صح عندي أنه قال لما أسلم إلي حامد: لو علمت أن ابن الفرات سيبقى بعد صرفه يوماً واحداً ما سعيت عليه، ووالله، لقد كنت أدعو الله في حبسي، أن لا يمكنني منه، ولا من الباقطائي، أما هو فلإحساني العظيم- كان- إليه، فلم أحب أن أتمكن منه فأسفي غيظي وأفسد إحساني إليه وأما الباقطائي، فلقبيح إساءته إلي، ولأنه شيخ من شيوخ الكتاب، وخفت العار بما لعلي كنت أعامله به لو حصل في يدي، فلم تجب دعوتي فيه، وأجيبت في الباقطائي، والآن فوحق محمد وآله عليهم السلام، لا جرى على ابن مقلة مكروه بعد هذا، وأنا أتقدم اليوم بأخذه من المحسن، وإنفاذه مع سليمان بن الحسن إلى فارس، وأجريه مجراه في الأمر بحراسة نفسه، وباقي حاله، وأزيدك- يا أبا عبد الله- ما لا أحسبك فهمته.
فقلت: وما هو ? فإني لم أزل أستفيد الفوائد من الوزير- أيده الله- تعلماً وإنعاماً.
فقال: قد بقيت له بقية وافر من حاله، لولاها، لكان لا يقدر أن يقول قولاً سديداً، ولا يتفرغ قلبه لنظم شعر، وبلاغة نثر.
قال: فلما كان من الغد، أخرجه من المحبس، وأنفذه إلى فارس، هو وسليمان بن الحسن، فسلما.
كيف تخلص طريح بن إسماعيل الثقفي من المنصور
أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين الأموي، المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن حمزة بن أبي عيينة المهلبي، عن أبيه، عن طريح بن إسماعيل الثقفي، أنه دخل على أبي جعفر، في الشعراء، فقال له: لا حياك الله، ولا بياك، أما اتقيت الله حيث تقول في الوليد:
لو قلت للسيل دع طريقك والمو ● ج عـليه كالهضب يعتلج
لســـاخ وارتـــدّ أو لـكــــــان له ● إلـى طريقٍ سواه منعرج
فقال طريح: قد علم الله أنني أردت الله بهذا وعنيته، وقلت ذلك، ويدي ممدودة إليه عز وجل.
فقال أبو جعفر: يا ربيع، أما ترى ها التخلص،
●[ المأمون يعفو عن الحسين بن الضحاك ويمتنع عن استخدامه ]●
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، إجازة، قال: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وألفاظهم تزيد وتنقص.
وأخبرني ببعضه محمد بن خلف، وكيع، من آخره، وقصة وصوله إلى المأمون، ولم يذكر ما قبل ذلك، قالوا: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، ولم يقل وكيع عن أبيه، واللفظ في الخبر لابن أبي الأزهر، وحديثه، ثم قال: كنت بين يدي المأمون قائماً فدخل ابن البواب الحاجب، برقعة فيها أبيات، فقال له: أتأذن في إنشادها ? قال: هات، فأنشد:
أجرني فإنّي قد ظمئت إلى الوعد ● متى ينجز الوعد المؤكّد بالعهد
أعيذك من خلف الملول وقد ترى ● تقطّع أنفاسي عليك من الوجد
رأى الله عـبـد الله خـير عباده ● فمـلّـكـه والله أعلــم بالعبــــــــد
ألا إنّما المأمون للنّاس عـصمة ● مميّزة بين الضلالة والرّشد
فقال له المأمون: أحسن يا عبد الله، وظنها له.
فقال: بل أحس قائلها يا أمير المؤمنين.
قال: ومن هو قائلها، قال: عبدك الحسين بن الضحاك.
فقطب، وقال: لا حيا الله من ذكرت، ولا بياه، ولا قربه أليس هو القائل:
أعينيّ جودا وابكيا لي محمّدا ● ولا تـذخـرا دمـعـاً عـلـيه وأسـعدا
فلا تـمّـت الأشياء بعد محمّدٍ ● ولا زال شمل الملك فيه مـبـدّدا
ولا فرح المأمون بالعيش بعده ● ولا زال في الدّنيا طريداً مشرّدا
هذا بذاك، ولا شيء له عندنا.
فقال ابن البواب: فأين فضل أمير المؤمنين، وسعة حلمه، وعادته في العفو ? فأمر بإحضاره.
فلما حضر، سلم، فرد عليه السلام رداً خفياً، ثم قال: أخبرني عنك، هل عرفت- يوم قتل أخي- هاشميةً قتلت، أو هتكت, قال: لا. قال: فما معنى قولك:
ومما شجى قلبي وكفكـف عبرتي ● محـارم مـن آل النّبي استحلّت
ومهـتوكة بالخلد عنها سجوفها ● كعاب كقرن الشمـس حين تبدّت
إذا خــفرتـها روعة من منازع ● لها المرط عاذت بالخضوع ورنّت
وسرب ظباءٍ من ذؤابة هاشم ● هتـفن بدعوى خير حيّ ومـيّت
أردّ يداً مـــنّـــي إذا ما ذكرته ● علـى كـبـدٍ حــرّى وقـــل مفتّت
فلا بات ليل الشامتين بغبـطة ● ولا بـلـغـت آمـالـهـا من تمنّت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني.
فدمعت عينا المأمون، وقال: قد عفوت عنك وأمرت لك بإدرار أرزاقك عليك، وإعطائك ما فات منها، وجعلت عقوبة ذنبك، امتناعي عن استخدامك.
● [ بين المعتصم والحسين بن الضحاك ] ●
أخبرني محمد بن يحيى الصولي، إجازة، وقد ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الكبير، كتاب الأغاني، الذي أجازه لي في جملة ما أجاز، في أخبار الحسين بن الضحاك، قال: غضب علي المعتصم في شيء جرى على النبيذ، وقال: والله لأؤدبنه، وحجبني، فكتبت إليه:
غضــب الإمـام أشدّ من أدبه ● وقد استجرت وعذت من غضبه
أصـبحـت معـتصماً بمعتصمٍ ● أثـنـى عـلــيه الله فـــي كتبه
لا والّـــذي لم يبق لي سببـاً ● أرجو النّجـاة به سوى سببه
ما لـــي شـفيع غير رحمته ● ولكـلّ من أشفى عـلى عـطبه
إلاّ كـــــــريم طــبـاعه وبه ● أرجو الّـذي أرجـوه في نسـبه
فلما قرئت عليه، التفت إلى الواثق، وقال: بمثل هذا الكلام يستعطف الكرام، ما هو إلا أن سمعت أبيات حسين هذه، حتى زال ما في نفسي عليه.
فقال الواثق: هو حقيق أن يهب له أمير المؤمنين ذنبه، ويتجاوز عنه، فرضي عني، وأمر بإحضاري.
قال الصولي: فحدثني الحسين بن يحيى، أن هذه الأبيات إنما كتب بها إلى المعتصم لأنه بلغه عنه أنه مدح العباس بن المأمون، وتمنى له الخلافة، فطلب، فاستتر، وكتب بهذه الأبيات إلى المعصتم على يدي الواثق، فأوصلها، وشفع له، فرضي عنه، وأمنه، فظهر، ثم استدعاه، فدخل عليه، وهجا العباس بن المأمون، فقال:
خلّ اللّعـين ومـا اكتسب ● لا زال مـنـقـطـع الـسّبب
يا عـــرّة الـــــثّـقلين لا ● دينـــاً رعـــيت ولا حسب
حســـد الإمـــام مــكانه ● جهلاً هداك على العطب
وأبــــــوك قــــدّمـه لها ● لمّـــا تـــخـــيّر وانـتخب
ما تستطيع سوى التنفّ ● س والـتـجرّع للكـرب
لا زلت عـند أبيك من ● تقـــص الـــمــــروءة والأدب
● [ الشعبي يروي قصة دخوله على الحجاج ] ●
وجدت بخط القاضي أبي جعفر أحمد بن البهلول الأنباري، قال الشعبي: كنت فيمن خرج مع ابن الأشعث، على الحجاج، فلما هزم، هربت، فأتيت يزيد بن أبي مسلم، وكان لي صديقاً، وذكرت له أمري.
فقال: يا عامر، أنا أخوك الذي تعرف، ووالله، ما أستطيع نفعك عند الحجاج، وما أرى لك إلا أن تمثل بين يديه، فتقر بذنبك، فإن الحجاج ليس منن يكذب، فاصدقه، واستشهدني على ما بدا لك.
قال الشعبي: فما شعر الحجاج، إلا وأنا قائم بين يديه، فقال: عامر، قلت: نعم أصلح الله الأمير.
قال: ألم أقدم العراق، فوجدتك خاملاً، فشرفتك، وأوفدتك إلى أمير المؤمنين، وأثبتك عريف قومك، واستشرتك ? قلت: بلى.
قال: فما الذي أخرجك علي، وأين كنت في هذه الفتنة،
قلت: أصلح الله الأمير، أوحش الجناب، وأحزن بنا المنزل، فاستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، واستحلسنا البلاء، وفقدنا صالح الإخوان، وشملتنا فتنة، لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، وما أعتذر ألا أكون سعيت، وهذا يزيد بن أبي مسلم، يشهد لي بذلك، وأني كنت أكتب إليه بعذري.
فقال ابن أبي مسلم: صدق، أعز الله الأمير.
فقال الحجاج: هذا عامر، ضرب وجوهنا بسيفه، وأتانا يعتذر بالباطل، ردوا عليه عطاءه.
وعفا عنه.
● [ لهذا الباب بقية ] ●
مُختصر كتاب الفرج بعد الشدة
تأليف : القاضي التنوخي
مجلة توتة وحدوتة الإلكترونية . البوابة