الكتاكيت
- المساهمات : 174
تاريخ التسجيل : 23/01/2014
من طرف الكتاكيت الجمعة 14 أغسطس 2015 - 10:16
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
البديع في وصف الربيع
● [ الفصل الثالث ] ●
القطع المفردة كل قطعة منها بنور على حدة
قال أبو الوليد: يجب أن نبدأ بأول الأنوار، وأبكر الأزهار وهو من النواوير الربيعية، نور البهار. ولكن ما كان من النواوير باقياً في كل وقت، وثاوياً مع كل فصل، هو أول على الحقيقة، وصدر في هذه الطريقة كالآس والياسمين، فأما الآس فقد فضل قديماً على ضروب الأنوار وصنوف الأزهار، وصيغت في ذلك حسان الأشعار، إذ شجره يقوم مقام النوار ثم يزيده نواره جمالاً ثانياً، ويضيف إليه كمالاً زائداً وأما الياسمين فإن نوره لا ينقطع أبداً كله ولا يذهب جميعه. فنبدأ بهما ثم نذكر النواوير على أزمنتها.
الآس
قال أبو الوليد: من حسن ما قيل فيه ما أنشدنيه لنفسه الشيخ أبو عبد الله بن مسعود وهو:
الآس آس لأسى ... كل فؤاد مكتئبْ
في كل فصل زاهر ... وما سواه منقلبْ
إذا سرى منه الشذا ... في آخر الليل وهبْ
أهدى لأرواح به ... أرواح روح وطربْ
كأنه في جنة ال ... خلد نما ثم اقتضبْ
لو نافر النور إلى ... عدل صحيح المعتقبْ
وصحفت نصبته ... جاء نبياً فغلبْ
قوله: أرواح روح الأرواح هنا جمع ريح، والروح: الراحة. والأرواح الأول: جمع روح وقوله: جاء نبياً يعني أن هذا اللفظ تصحيف آس مقلوباً. ومما فيه من حسن التشبيه قول أبي عمر الرمادي في قطعة تضمنت وصف غيره وهو:
خلوف من الريحان راقت كأنها ... وإن حسنت في لحظنا لمم شعثُ
ومما يقرب من هذا - وإن كانت فيه زيادة - بيت أبي الحسن بن علي أبي غالب:
فما شئت من آس تفتح نوره ... كما أخلست هام لها شعر جثلُ
يقال: أخلس الرأس إذا بدا شيبه. ومن الفائت الفائق، والرائع الرائق في وصفه قطعة خاطبني بها الوزير أبو عامر ابن مسلمة وبعث معها مطيباً وهي:
يا واحد الأدباء والشعراء ... وابن الكرام السادة النجباءِ
إني بعثت مطيباً نمقته ... من روض داري دارك الغناءِ
من آسه لازلت تأسو عاطراً ... وتبيد ما يعدو من الأعداءِ
يحكي بطيب عرفه وبحسنه ... خلقاً خليقاً منك بالإطراءِ
هو كالسماء إذا بدت مخضرة ... لاحت عليها أنجم الجوزاءِ
فاقبله من صب بحبك وده ... ألا تزال أخا علاً وعلاءِ
قال أبو الوليد: فجاوبته عن هذه الألفاظ البديعة، والمعاني الرفيعة. بما يمكن أن يدخل في هذا الباب ويوافق بعض غرض هذا الكتاب وهو:
يا من حبوت بوده حوباء ... وهي الفداء له من الأسواءِ
وصل المطيب معرباً عن طيب من ... أهداه مكتئباً من الإهداءِ
أظميته من بعد ما أرويته ... بمدامة فيها دواء الداءِ
ما كان أشهر طيبه لو لم يكن ... متستراً بالقطعة الغراءِ
أربى عليه نظمك الحلو الحلى ... فانحط بعد الرتبة العلياءِ
إن كان نور الآس في ورقاته ... نوراً بدا في ليلة ظلماءِ
فجمال خلقك حين ينظم عقده ... كالبدر ينظم أنجم الجوزاءِ
ومن المستحسن المستغرب، والمستطاب المستعذب، ما أنشدنيه لنفسه فيه صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية وهو:
أما ترى الريحان أوراقه ... تلتف تجعيداً ولا تنبسطْ
دقيقة اللمات في رؤوسها ... كأنه أسود جعد قططْ
وقد غدا تنويره جوهراً ... ففي الموامي والربا يلتقطْ
حتى إذا ما مل من مكثه ... في عوده المشرق فيه سقطْ
منكشفاً عن ثمر أسود ... كأنه من نفض حبر نقطْ
قوله: لموامي جمع موماة وهي القفر، ويقال: بوباة فيها أيضاً. والربا جمع ربوة وهو ما ارتفع من الأرض. ومن المشرق جماله، المونق كماله، المعدوم مثاله ما أنشدنيه لنفسه أبو جعفر ابن الأبار وهو:
وآس كاسمه للهم آس ... تتيه به حلى الزمن القشيبِ
ترسل كالغدائر مرسلات ... بها قطط ونم بكل طيبِ
وكتم نوره فبدت لآل ... مدحرجة لها عرف الحبيبِ
كأن الصبح شق به جيوباً ... فغادر فيه أزرار الجيوبِ
ونافسه الورى شغفاً وحباً ... فعود سود حبات القلوبِ
هذا الوصف مستوعب لجميع أحوال الآس لأن نوره أولاً مبيض ثم يسود. وله أيضاً فيه وصف يوازي هذا ويضاهيه، وهو:
لا أيأس الآس هامي السكب مدرار ... فهو الوفي وكل النور غدارُ
تكاد تثمر نفس الصب من جذل ... إذا بدا ثمر منه ونوارُ
كأنما ألبسته المزن خضر حلى ... لها من المسك والكافور أزرارُ
هذا ما وقع إلي في الآس، وحين أكملته أبدأ بما ورد علي في الياسمين.
[ الياسمين ]
قال أبو الوليد: أبدع ما قيل فيه، وأبزع ما شبه به، وأرفع ما أمل علي لنفسه فيه ذو الوزارتين القاضي - حرس الله حوباءه وصان ذكاءه - وهو:
وياسمين حسن المنظر ... يفوق في المرأى وفي المخبرِ
كأنه من فوق أغصانه ... دراهم في مطرف أخضرِ
قال أبو الوليد: هذا التشبيه معدوم التشبيه. ومما يوازيه دقة، ويضاهيه رقة قوله أمله علي - أبقاه الله - وهو:
وياسمين حسن المجتلى ... كأنه في قضبه الضافيهْ
زمرد رصع ما بينه ... مداهن من فضة صافيهْ
وأمل - أعزه الله، وأحسن ذكراه - علي فيه له قطعة قوية الوصف، سرية الرصف وهي:
سبحان من أنشأ ذا الياسمين ... خلقاً بديعاً للنهى والعيونْ
كأنما الأغصان من تحته ... والورق المخضوضر المستبينْ
زمرد نضد فوق الربا ... وهو على أعلاه در مصونْ
آيات صدق شاهدات بأن ... ليس لمن أبدعها من قرينْ
وهذه التشبيهات كلها، والصفات بأسرها هي فيه وهو في شجره، ولو لم يكن كذلك لم تشبه خضرته وأكثر ما وصف في هذه الحال، ولم يقع في نواره مفرداً إلا قول أبي عمر الرمادي وهو من الصفات المطبوعة والتشبيهات البديعة:
انظر إلى روض ياسمين ... لم يرد الورد وهو واردْ
كأنه عدة ولوناً ... أكف حور بلا سواعدْ
قال أبو عمر أحمد بن فرج يصف بقاءه ويقرض وفاءه:
ليس كالياسمين نور الرياض ... هو باق والنور أجمع ماضِ
فاقض بالفضل للوفاء على الغد ... ر تكن إن حكمت أعدل قاضِ
ومن السحر الحلال، المستوفي نهاية الكمال، قول ذي الوزارتين أبي عمرو عباد - أعزه الله - وقد دخل بستاناً لي اكتسبته من نوافل كرمه وسوابغ نعمه، فرأى ياسميناً فيه فقال بديهة:
كأنما ياسميننا الغض ... كواكب في السماء تبيضُّ
والطرق الحمر في جوانبه ... كخد عذراء ناله عضُّ
شبه النور بالكواكب، وخضرة ورقه بخضرة السماء، ولم أسمع لأحد قبله وصف حمرته وهي تكثر عند قلة الياسمين في زمن الشتاء وتقل عند كثرته.
وللوزير أبي عامر بن مسلمة فيه وصف رائق، وتشبيه رائع، وصله بمدح ذي الوزارتين المذكور - أعزه الله وأسبغ عليه نعمه - وهو:
وذكي العرف لاقا ... نا على كرسي ملكهْ
أرضه الخضراء بحر ... نوره فيه كفلكهْ
ياسمين قد غدت أن ... وارنا طوعاً لملكهْ
طوع حر الشعر عبا ... داً وقد أومى لسلكهْ
ماجد ينقاد منه ال ... أدب الغض لملكهْ
مالكه يوقن منه ... ومناويه بهلكهْ
ومن المعاني الدقيقة في الألفاظ الأنيقة ما أنشدنيه لنفسه فيه الوزير الكاتب أبو الأصبغ بن عبد العزيز وهو:
وياسمين بعرشه أشرف ... عرفه العرف قبل أن يعرفْ
تكامل الطيب والجمال به ... فهو من الفضل فوق أن يوصفْ
كأنما خلقه البديع إذا ... تزاحم النور قبل أن يقطفْ
سرير ملك عليه مشملة ... خضراء والقطن فوقها يندفْ
ومن التشبيه السري والتمثيل السني، قول الفقيه أبي الحسن بن علي وشبه مجلس الأنس بالحرب وهو:
وشرب أدلجوا للأنس لما ... أصيغ على يد الشجر الذمارُ
سرت بهم إلى ثغر التصابي ... ركاب لا يخاف لها عثارُ
فخلوا آمنين على الأماني ... فكان لهم من الشجر انتصارُ
عريش الياسمين لهم سماء ... وخضرة أرضه لهم قرارُ
به حجف من النوار بيض ... مفضضة وأرماح صغارُ
فوجه نهارهم بالظل ليل ... وليلهم بأنجمه نهارُ
فإن أوحشت من شمس تبدت ... عليك بشمس كفرها العقارُ
وما شهد الكرام وغى كحرب ... جراح المقصدين بها جبارُ
قوله: جبار أي لا دية فيها ولا مطالبة بها وقوله: به حجف، الحجف صغار الترسة. وأرماح صغار: يعني النواوير المتعلقة منه أول ما تبدو.
ومن الصفات السرية وصف صاحب الشرطة أبي بكر بن القرطية:
وأبيض ناصع صافي الأديم ... تطلع فوق مخضر بهيمِ
نزيه النفس همته المعالي ... ذكي العرف مسكي النسيمِ
فلست تراه إلا عند ملك ... وإلا عند خاصتي كريمِ
شأى النوار فارتفع اعتراشاً ... عليه كهيئة الملك العظيمِ
كأن ثماره المجني منها ... سماء قد تحلت بالنجومِ
وأنشدني لنفسه فيه أبو علي إدريس بن اليمان قطعة حسنة التشبيه وهي:
أمير النور يأمرني بشرب ... ولست أطيق عصيان الأميرِ
فخذ كأس السرور فاسقنيها ... على ود الأمير على السريرِ
نجوم من لجين تجتليها ... سماء زبرجد خضل نضيرِ
تزيد على الأقاحي في ابتسام ... كما زاد الكبير على الصغيرِ
وينخفض الشذا المسكي عنها ... كما انخفض الصغير على الكبيرِ
قال أبو الوليد: هذا ما وقع إلي في الياسمين البستاني وعثرت على قطع في الياسمين البري وهو الظيان، وليس يبقى مدة العام، إنما هو ربيعي، ولكن قدمته على الربيعية لتسميه باسم المتقدم، وانتسابه إليه، واشتباهه به، فوصلت ذكره بذكره. وما قيل فيه مع أن وصفه لم يكثر، وذكره لم يتكرر فليس يحتمل إفراداً وإنما يجب أن يكون تبعاً لهذا، وخلق شجره ونوره كخلق البستاني إلا أن نوره أصغر. فمن أطبع ما قيل فيه وأبدعه وأعلى ما شبه به وأرفعه أبيات لذي الوزارتين القاضي الجليل المنقطع المثيل أملها علي وهي:
ترى ناضر الظيان فوق غصونه ... إذا هو من ماء السحائب يغتذي
وحفت به أوراقه في رياضه ... وقد ُقد بعض مثل بعض وقد حذي
كصفر من الياقوت يلمعن بالضحى ... منضدة من فوق قضب الزمرذِ
وله - أعلى الله ذكره وأيد أمره - في صفرته خاصة تشبيه بديع، وتمثيل رفيع أمله علي، وهو:
كأن لون الظيان حين بدا ... نواره أصفراً على ورقهْ
لون محب جفاه ذو ملل ... فاصفر من سقمه ومن أرقهْ
وأنشدني فيه لنفسه الوزير الكاتب أبو الأصبغ بن عبد العزيز أبياتاً معجبة تضمنت أوصافاً مغربة، وهي:
فضائل الظيان معروفة ... تروق في المنظر والخبرِ
فاق النواوير معاً أنه ... منزه يأوي إلى البرِ
وأنه يأنف أن يقتنى ... على سبيل الملك والقسرِ
فآثر الصحراء مستأنساً ... في ليله بالأنجم الزهرِ
متى تزره تلق من عرفه ... ما شئت من طيب ومن عطرِ
أبراده خضر ولكنها ... مخصوصة باللبن الصفرِ
وللفقيه أبي الحسن بن علي فيه وصف رائع وتشبيه بارع في قطعة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي وهي:
إذا نور الظيان في خضر قضبه ... وراح بثوب من دجا الري قد حذي
أفادك من صفر اليواقيت أنجماً ... له طالعات في سماء زمردِ
كأن سناه في الرياض وحسنه ... بحسن ابن عباد ورياه محتذي
قال أبو الوليد: وحين أوردت ما وقع إلي في الآس والياسمين من بديع الشعر الموزون نذكر الأنوار على أزمنتها ونبدأ بالأول منها وهو نور البهار.
[ البهار ]
وقال أبو الوليد: ويسمى البهار النرجس، وأكثر أشعار المشرقيين اسمه فيها النرجس وأما الأندلسيون فاستعملوا الاسمين، وذكروا اللغتين.
فمن أبدع تشبيه وقع إلي فيه قول أحمد بن هشام بن عبد العزيز بن سعيد الخير ابن الإمام الحكم، وقد بعث به إلى الإمام عبد الرحمن الناصر لدين الله وهو:
يا مليكاً من الملوك مصفى ... والذي جل أن يحدد وصفا
عبدك الشاكر المؤمل أهدى ... نرجساً كالعبير نشراً وعرفا
كلما فاح نشره قلت: إلف ... في دجا الليل عاطر زار إلفا
وإذا ما لحظته قلت: ألحا ... ظ خليع قد مال سكراً فأغفى
منه مثل الإبريز في صفرة اللو ... ن ومنه مثل الجمان المصفى
فكأني بما أقلب منه ... صيرفي أضحى يحاول صرفا
وقول إسماعيل بن بدر وهو حلال من السحر:
أهدي إليك من النوار أحسنه ... قد ضل في وصفه من قلبي الناسُ
كأنها نقر من فضة وضعت ... فيها من الذهب الإبريز أكواسُ
على الزمرد قامت عند منبتها ... في كل نوارة مفتوحة كاسُ
وقال الحاجب أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي يصفه بألفاظ رطبة، ومعان عذبة، وأشار في أول بيت إلى ممدوح لم يسمه، وهي:
بنفسي وأهلي طالع خلت أنه ... بأخلاق معشوق العلا يتخلقُ
حكى الفضة البيضاء والتبر منظراً ... ولكنه بالنفس ألطى وأعلقُ
فصيح إذا استنطقته عن زمانه ... وما خلت أن النور من قبل ينطقُ
يبثك أنفاس الحبيب وإنها ... لأذكى من المسك الذكي وأعبقُ
أتانا على عهد الشتاء مبشراً ... بعهد يروق الناظرين ويونقُ
وقال أبو عمر احمد بن فرج - وقيل: أخوه عبد الله - يصفه:
ونرجس تطرف أجفانه ... كمقلة قد دب فيها الوسنْ
كأنه من صفرة عاشق ... يلبس للبين ثياب الحزنْ
قال أبو الوليد: جرى في ثياب الحزن على مذهب أهل الأندلس، إذ ثياب حزنهم بيض وهو تشبيه بديع، وتمثيل رفيع، ومعنى مطبوع.
ومن التشبيهات العقم التي تدل على يقظة الفهم، قول ابن القرشية عبد العزيز ابن المنذر بن عبد الرحمن الناصر لدين الله - رضي الله عنهم - وهو:
كأن الثرى ستر تمد خلاله ... بأكواس راح راحهن الكواعبُ
يسترن من فرط الحياء معاصماً ... بأكمامهن الخضر عمن يراقبُ
جعل قضبه الخضر معاصم مستورة بأكمام خضر، وجعل أكفها مبيضة وكؤوسها مصفرة. وأنشدني الفقية أبو الحسن بن علي الأشجعي النحوي يصف بهاراً أخرجه إليه أحد بني بخت وسأله وصفه، فقال على البديهة:
ما للبهار نظير في النواوير ... إذ صار أول مخصوص بتبكيرِ
أما ترى الصب والمعشوق قد جمعا ... في لونه بين تبييض وتصفيرِ
كأنما رق للعشاق منظره ... فعجل النور من بين النواويرِ
أحبب به فلقد أنبا بطلعته ... عن السرور وإتمام التباشيرِ
وكتب الوزير أبو مروان بن الجزيري إلى المنصور أبي عامر بن أبي عامر وهو بأرملاط، عن بهار العامرية في كانون الأول الكائن في سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاء المنصور مولاي، وأدام عزه، وهنأه سروره، وسوغه نعمه عنده، إني - أيد الله المنصور مولاي - لما استقلت زهرتها مائلة قضبي، وتنبهت من سنتها نائمة جفوني، ونمت بعطرها ساطعة روائحي، وافترشت ديباج حديقة بكر وسميها، وتتابع وليها فالتقى ثرياها، وأخذت الأرض زخرفها وازينت وطاب صعيدها حتى كأن ترابها فتيت المسك، أو سحيق الكافور، عن لي زهو بحسني وارتياح لحالي، وإعجاب بمكاني، وشاركت ذلك دواعي هزة الشوق إليك، وشواجي لوعة البعد عنك حين فارقت محلي، وآثرت بالزيارة غيري فحركن مني ساكناً، وبعثن لي على مناجاة الشعر خاطراً. فأجابني منه ما ضمنته غرائب وصفي وأهديته إلى مولاي مع محاسن شخصي الذي هو غرس همته وابن نعمته لعل فعلي أن يوافق منه قبولاً، ويقسم لي من حسن تذكره نصيباً بواسع تفضله وسابغ تطوله، وكريم تحاوره. والشعر:
حدق الحسان تقر لي وتغار ... وتضل في صفة النهى وتحارُ
طلعت على قضبي عيون كمائمي ... مثل العيون تحفها الأشفارُ
وأخص شيء بي إذا شبهتني ... درر تنطبق سلكها دينارُ
أهدت له قضب الزمرد ساقه ... وحباه أنفس عطره العطار ُ
أنا نرجس حقاً بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل: بهارُ
إني لمن زمن الربيع تربني ... قطع الرياض وتلقح الأمطارُ
فأكون عطراً للأنوف ومنظراً ... بهجاً تهافت نحوه الأبصارُ
وتحية بين الندام تحت لي ... نخب الكؤوس وتنطبق الأوتارُ
وأقل جود العامري محمد ... ألف حكت حدقي وتلك نضارُ
عشر تعد من المئين لأنمل ... عشر يصرفها وهن بحارُ
قوله: ألف حكت إنما أنث الألف لصرفها إلى الدراهم، وأما الألف فمذكر. ولا يحتاج إلى ذكر أكثر من هذا المدح، كما لا يحتاج إلى إطراء النظم والنثر بأكثر من أنهما حلال في السحر. ومن الحسن السري قول أبي عمر القسطلي يصفه في قطعة موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر وهي:
دعيت فأصغ لداعي الطرب ... وطاب لك الدهر فاشرب وطبْ
وهذا بشير الربيع الجديد ... يبشرنا أنه قد قربْ
بهار يروق بمسك ذكي ... وصنع بديع وخلق عجبْ
غصون الزمرد قد أورقت ... لنا فضة نورت بالذهبْ
إذا جمعت في حبال الحرير ... وقامت أمامك مثل اللعبْ
فمن حقها أن ترى الشاربين ... وقد نفقت سوقهم بالنخبْ
وأن يسألوا الله طوال البقاء ... لعبد المليك مليك العربْ
فلولا مجالسه لم ترق ... ولولا شمائله لم تطبْ
وأنشدني الفقيه أبو الحسن بن علي للفقيه أبي عثمان بن البر قريبه:
ألا فاسقني روح النفوس وأنسها ... ولين بماء المزن في المزج مسها
وشعشع لنا شمس الشمول ببدرها ... وأجر علينا بالمسرة كأسها
فأنت ترى أقمار نرجس روضنا ... خلاف السماويات جاوزن شمسها
محاسن لو دانت أخا العي باقلاً ... إذا بذ سحبان البرايا وقسها
وأنشدني لنفسه فيه الوزير أبو عامر بن مسلمة قطعة غريبة التشبيهات عجيبة الصفات، وهي:
قد جاءنا رائد الربيع ... بمنظر رائق بديعِ
هو البهار الذي تعلى ... وجل في حسنه الرفيعِ
كأنه مقلة تشكى ... إلى الحيا قلة الهجوعِ
أكف كافورة قد أومت ... بكأس تبر إلى الربيعِ
أو شعلة النار وسط ماء ... جسد من ثوبه النصوعِ
وله فيه قطعة توازي هذه جمالاً، وتضاهيها كمالاً كتب بها إلى أبي - وقاه الله بي - وبعث معها بهاراً مبكراً:
أيا ماجداً لم يزل جوده ... يلوح كما لاح ضوء النهارِ
ويا من أحل بأمواله ... سماحاً أخل بصوب القطارِ
بعثت إليك بنور البهار ... حكى فضة حول محض النضارِ
هو الدر نظم من بينه ... يواقيت فاقعة الإصفرارِ
أو الماء صير من فوقه ... إذا ما تأملته ضوء نارِ
نهار ولكنه باهر ... فعوض من ذاك باسم البهارِ
كما بهرت منك سيما العلا ... فألبست البدر ثوب السرارِ
بقيت ووقيت صرف الردى ... فإنك في كل أمر مداري
ومما يستحسن فيه وتستغرب معانيه قول صاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية وهو:
زمرد أورقت أغصانه درراً ... فراح كالراحة البيضاء منفطرا
يقل ياقوتة صفراء فاقعة ... كأنها التبر من فوق اللجين جرى
هو النهار ولكن رد نقطته ... مكيدة تحته النوار إذ وغرا
ثمت دعاه بهاراً كي يهجنه ... وقد حوى قصبات السبق إذ بهرا
كمقلة دب في أجفانها وسن ... فرنقت غير أن لم تدر طعم كرى
وأهدى صاحب الشرطة أبو بكر المذكور مطيب بهار إلى الوزير أبي عامر بن مسلمة وكتب معه أبياتاً رائقة السمات، فائقة الصفات وهي:
قل لريحانة العلا والمكارم ... والكريم النجار وابن الأكارمْ
قد بعثنا إليك يا خير ناش ... بالدنانير فوق محض الدراهمْ
لم يسس طبع هذه جعفر قط ... ط ولا ضرب تلك راحة قاسمْ
ببهار يحكي جمالك حسناً ... وحكى عرفك الذكي لناسمْ
يتشكى الظما وفي يدك الري ... ي فإن لم تروه كنت ظالمْ
دمت للمهرجان والعيد والني ... روز إلفاً من الحوادث سالمْ
فجاوبه الوزير أبو عامر بن مسلمة بديهة بأبيات تشاكلها براعة وتشابهها بزاعة وهي:
في النرجس الغض شبه لا خفاء به ... للنيرين يرى في طالع الزهرِ
فصفرة الشمس قد ردته صفرتها ... وقد مبيضه من صفحة القمرِ
كأن ياقوتة صفراء قد طبعت ... في غصنه حوله ست من الدررِ
حسن يدل على إتقان صانعه ... سبحانه مبدع الأخلاق والصورِ
وله أيضاً فيه قطعة موصولة بمدح ذي الوزارتين القاضي - أطال الله عمره كما أطاب ذكره - وهي:
أرى في البهار النرجسي تلألؤاً ... عيون الورى مشغوفة بالتماحهِ
كأن الرياض الخضر صغن لباسه ... بشكلين من ماء الغمام وراحهِ
أو الدهر رداه سروراً بشخصه ... رداءين من إسفاره وصباحهِ
فحلته في لونها ذهبية ... وفضية أثناء عقد وشاحهِ
جمال به حل الربيع قراره ... ومنه كسا لا شك نور أقاحهِ
كما قد تحلى الدهر من بعد عطلة ... بجود ابن عباد وفضل سماحهِ
به نيلت الآمال في كل بغية ... وبوشر برد الأمن تحت جناحه
ومن البديع المختار فيه ما أنشدني لنفسه أبو جعفر بن الأبار وهو:
أما ترى الروض راضاه الحيا فبدا ... للنرجس الغض فيه لحظ مبهوتِ
مثل العيون رنت أشفارها درر ... لكن أناسيها صفر اليواقيتِ
الأناسي: جمع إنسان وهو ناظر العين وحدقتها.
[ البنفسج ]
وأنشدني فيه لنفسه أبو علي إدريس بن اليمان بيتين سابقين. وقال أبو قاسم بن هانئ الأندلسي:
بنفسج جمعت أنواره فحكت ... كحلاً تشرب دمعاً يوم تشتيتِ
أو لازوردية أربت بزرقتها ... وسط الرياض على زرق اليواقيتِ
كأن قضبانه والريح تحملها ... أوائل النار في أطراف كبريتِ
وللوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز فيه قطعة أغيت في الجمال فأعيت أهل الكمال، موصولة بمدح الحاجب - حجبه الله عن النوائب - وهي:
وبنفسج أربى على النوار ... وأفادنا عطراً بلا عطارِ
فكأن أعلاه في فيروزج ... وبساطة في خضرة الأشجارِ
وافاك في وقت الزيارة قائماً ... وقد انحنى للوحي بالأسرارِ
هو مسكة خلقت لها أوراقها ... في لونها من صنعة الجبارِ
أو رقعة زرقاء من كبد السما ... في يوم صحو فتنة النظارِ
أو لمة الحسناء تحسب وسطها ... للزعفران مواضع الآثارِ
أو لجة كحلاء هزتها الصبا ... فتكسرت ليناً على مقدارِ
أو درع حاجبنا أتته صقلية ... وقد انبرى للفتك بالكفارِ
ملك قلوب الأسد بين ضلوعه ... وبوجهه قمر من الأقمارِ
فإذا سطا فالصبح داج مظلم ... وإذا عفا فالليل في إسفارِ
ومن المعاني الجزلة في الكلمات العذبة ما أنشدني لنفسه فيه أبو عامر بن مسلمة وكتب به إلى ذي الوزارتين أبي أيوب بن عباد - أبقاه الله - في زمن البنفسج وهو:
يا من تحلى به الفخ ... ر والسناء يتوجْ
ومن بجود يديه ... باب الغنى غير مرتجْ
ومن بطيب ثناه ... نار العلا تتأججْ
إذا انتشيت فعرج ... على رياض البنفسجْ
تجد به روض حسن ... في ثوب أرض مدبجْ
فثم فاعكف وباكر ... مدامة تتوهجْ
ترى زمرد أرض ... منه اليواقيت تنتجْ
كأنه لجة البح ... ر غاص فيها ملججْ
فأخرج الزرق لكن ... بغيرها لم يعرجْ
حكى حسام أبي أي ... وب المتضرجْ
أعني ابن عباد الما ... جد الكريم المتوجْ
وأنشدني لنفسه فيه الفقيه أبو الحسن بن علي أحسن ابتداع وأغرب اختراع موصولاً بمدح ذي الوزارتين أبي عمرو بن عباد - أدام الله عزته ووصل حرمته - وهو:
ألا حبذا المحبوب نور البنفسج ... وأحبب بمرآة البديع وأبهجِ
حياة وروح لعليل نسيمه ... ومنظره أنس المتيم والشجي
ونواره كالعقد في صدر غيد ... لمختلس سهو الرقيب ومدلجِ
وحمر اليواقيت الوضاء وصفرها ... تألفتا في لونه المضرجِ
فلو نظمته الحاليات لأشرقت ... جواهره في كل قرط ودملجِ
محاسنه من حسن عباد الرضا ... ولألاؤه من وجهه المبتلجِ
وله أيضاً بيتان استوليا على أمد الإحسان وهما:
إذا ما نواوير البنفسج أطلعت ... جواهرها في الروض نثراً بلا سلكِ
رأيت سماء وشحت درع خضرة ... عليها نجوم طالعات من المسكِ
ولأبي جعفر بن الأبار فيه قطعة جيدة الحبك حسنة السبك موصولة بمدح الحاجب - لا أعد منا الله جاهه كما أعدمنا أشباهه - وهي:
صاد الزمان ورو غلة صاد ... بمدامة لم تعد مولد عادِ
أو ما ترى ثغر الثرى مبتسماً ... لك عن مراد مونق ومرادِ
وبنفسج الروض الأغر كأنه ... في حسنه لعس عليه بادِ
لا بل كأجنحة الفراش تألفت ... نسقاً وقد خضبت من الفرصادِ
روض يظل اللحظ يعبد حسنه ... كعبادة العليا بني عبادِ
يزهي المحافل والجحافل منهم ... أسنى عميد للورى وعمادِ
الحاجب المحجوب طاهر عرضه ... بندى جواد في الرهان جوادِ
صلتان ما زالت حداد سيوفه ... وقناه تكسو الشرك ثوب حدادِ
قوله: صاد أول القطعة أمر من صاديته إذا درايته. وصاد الثاني اسم الفعل من الصدى وهو: العطش والفرصاد: التوت وقوله: في الرهان جواد. معناه سابق وجواد قبله بمعنى كريم وحداد سيوفه معناه: قاطعة ماضية، وحداد الثاني: لبسة الحزن وهيئته. ولأبي علي إدريس بن اليمان فيه قطعة رفيعة الوصف، بديعة الرصف وهي:
فتق الثرى من نوره بكواكب ... دعج النواظر والخدود عجائبِ
فأدر علي الكأس بيضختية ... في دولة النجم الرفيع الثاقبِ
طبع الربيع على بشاشته به ... طبع الشبيبة فوق ثدي الكاعبِ
شبه لونه بلون أطراف الثدي وهو من الاختراع السري. وبيضختية: منسوبة إلى بيضخت قرية بعينها. وأنشدني لنفسه أيضاً فيه بيتين أنيقي التشبيه وهما:
وأريضة حاك الغمام برودها ... وسقى بريق الغانيات برودها
ضحك البنفسج فوقها فكأنما ... نثرت به خضر الحمام عقودها
شبهه بلون أطواق القماري، وهي موضع العقود ممن يستعملها، وهذا التمثيل مفضل له مستحسن منه. قال أبو الوليد: هذا ما عثرت عليه في البنفسج، وحين أوردته أبدأ بالخيري النمام إذ يقرب من حسنه ويشاركه في لونه.
[ الخيري النمام ]
أطبع ما جاء فيه، وأبزع ما شبه به قول أبي مروان المرادي وهو:
ينم مع الإظلام طيب نسيمه ... ويخفى لدى الإصباح كالمتسترِ
كعاطرة ليلاً لوعد محبها ... وكاتمة صبحاً نسيم التعطرِ
هذا المعنى ابتذله الشعراء بعده، وهو اختراع حسن له. ولأبي عمر يوسف بن هارون الرمادي فيه تشبيه حسن من قصيدة بديهي وهو:
انظر غرائب للخيري ظاهرة ... عند الظلام وعند الصبح تستترُ
كأنه سارق طبيباً تفرق في الظ ... ظلماء فهو بنم الريح مشتهرُ
وقال أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي يصفه في قطعة سرية موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
غدا غير مسعدنا ثم راحا ... يساعدنا طرباً وارتياحا
وخير فاختار شرب الغبوق ... ولج فليس يرى الاصطباحا
فإن آنس الصبح نام وشح ... وإن آنس الليل نم وفاحا
كما خير الله عبد المليك ... فاختار في راحتيه السماحا
وفي صهوات الخيول الرجال ... ومن أدوات الرجال السلاحا
فعم القريب ندى والبعيد ... وروى السيوف دماً والرماحا
ولأبي القاسم بن شبراق فيه وصف بديع وتشبيه مطبوع في قطعة موصولة بمدح المنصور لن أبي عامر - رحمه الله - وهي:
وبنفسجي اللون يكتم طيبه ... عند الشروق وفي الظلام ينم بهْ
فكأنه ذو مذهب ألفى الدجا ... ستراً وأمسك مصبحاً عن مذهبهْ
أو مستسر عن غريم فاقه ... غربت لجاجاً نفسه بتطلبهْ
والصبح من غرمائه ولأجل ذا ... لك يستسر تلوذاً عن مطلبهْ
قد كان يأخذه الصباح بغفلة ... لو لم ينم عليه مطلع كوكبهْ
ككتائب الرعب التي تتقدم ال ... منصور وهو بإثرها في موكبهْ
فتفر قبل حلوله عند العدا ... علماً بأن النصر أمر خص بهْ
ومن الباهر جماله، الظاهر كماله، قطعة لصاحب الشرطة أبي بكر بن القوطية موصولة بمدح أبي - أبقى الله علي ستره ورزقني بره - وهي:
ومضرج الأثواب مسكي النفس ... فكأنما اشتقت حلاه من الغلسْ
شرك البنفسج في الأديم فلونه ... من لونه فكأنه منه اختلسْ
يسري إذا طرق الظلام نسيمه ... ويظل يكمن بالنهار كذي دلسْ
متنكراً حتى المساء وإنما ... سلطانه بالليل فهو من الحرسْ
جنس يخالف كل جنس في التعر ... ري والتلبس والتوحش والأنسْ
فتراه طول نهاره متجرداً ... من عرفه ومع الدياجي ملتبسْ
وتراه طول نهاره متوحشاً ... فإذا دنا وقت الظلام له أنسْ
أنس المعالي بابن عامر الذي ... عمرت بدولته منازلها الدرسْ
أحيى الرياسة بالسياسة فهو مف ... صح لكنها... بعد الخرسْ
وعلا فلم يرث العلا والمجد عن ... جد له نكس ولا جد تعسْ
نور توقد فاستبان بلمحه ... ما كان أشكل قبل ذلك والتبسْ
ولبعض الأندلسيين فيه مغزى دقيق ومعنى رقيق، وقيل: إنه لعبادة بن ماء السماء وهو:
وكأن الخيري في كتمه الطي ... ب فقيه مغرى بطول رياءِ
يظهر الزهد بالنهار ويمسي ... فاتكاً ليله مع الظرفاءِ
وقال الوزير أبو عامر بن مسلمة يصفه بأبدع وأغرب وهو:
وروضة محفوفة ... بكل حسن مقترحْ
خيريها بخلقه ... عن كل نور منتزحْ
يكتم أسرار الهوى ... فإن أتى الليل يبحْ
مغتبق ليس يرى ... في دينه أن يصطبحْ
ومن التشبيه العلي قول الفقيه أبي الحسن بن علي وهو:
ما أكرم الخيري في فعله ... يسهر إذ نور الربا ناعسُ
كأنما خاف عليه العدا ... فهو له في ليله حارسُ
قال أبو علي إدريس بن اليمان يصفه بوصف متقدم الإحسان وهو:
مراشف الخيري حو لعس ... كأنه قد قبلته الشمسُ
أو نفست للمسك فيه نفس ... الطيب في الليل عليه حبسُ
وماله تحت النهار حس ... كأنما الضوء عليه حبسُ
قوله: قبلته الشمس: يعني أن لونه كلون من أثرت فيه الشمس، وإلى هذا أشار وإياه أراد. وله أيضاً فيه تشبيه عجيب أنشدنيه وهو:
أهلاً بسار طيب لا سارب ... أضحى هواه مضرباً بضرائبِ
يا ناجم الخيري جادك كل ذي ... ثغر لجيب الدجن فوقك جائبِ
أعطيت أنفاس الحبيب معطراً ... وخلقت من خيلان ثوب الكاتبِ
ومما كثر شغف أهل الميز به، واستحسان ذوي الفهم له قول أبي جعفر الأبار وهو:
لا تعذلوا الخيري في كتمه ال ... طيب استتاراً فهو عين الصوابْ
الصبح شبه الشيب في لونه ... فعافه والليل شبه الشبابْ
وأنشدني لنفسه فيه أبو بكر بن نصر أبياتاً مطبوعة تضمنت أوصافاً بديعة وهي:
أحب من الإخوان ندباً مبادراً ... نقي الحلى مما يدنس طاهرا
يلم بليل للمدام منادماً ... وينفض عني حين يصبح سائرا
وريحاننا الخيري محضاً فإنني ... تخيرته بين النواوير ناضرا
لما أنه يضحي مع العرف عاطلاً ... نهاراً ويمسي مدة الليل عاطرا
كأن له لب الأريب فما يرى ... مشاهدة اللذات إلا مساهرا
قال أبو الوليد: وبعث إلي صاحب الشرطة أبو الوليد بن العثماني مطيب خيري مبكر، وكتب معه قطعة نثر مقتطعة من السحر، وهي بعد صدرها:
بعثت بخبري جاز حد التبكير بأنسه، فحاز قصب السبق في أبناء جنسه، منظره أربى على المسك بنضرته، ومخبره قصر عن شيمك على بسطته، فأقبله بحق المجد عليك، ووسائل الحمد إليك، بهجاً منظره، أرجاً مخبره، إذا دنا الظلام ونام الأنام إلا من استدعى عرفه، واستجدى عرفه.
فجاوبته والجواب بعد صدره: فلما تعاهدت خيريك عهاد شيمك، ودامت عليه ديم كرمك، بكر متنعماً منها متنفساً عنها، ولا ند له إلا الند ولا مسك له إلا المسك، وقد قبضته مشغوفاً به مستلذاً بقربه، متعجباً من حسن اختياره لاستتاره باستهتاره تحت جناح الظلام ليسلم من الجناح والملام. وقد صنعت فيه أبياتاً بديهية متأخرة، فأغض على ما فيها محسناً إلى مهديها. وهي:
نهار خيريك في ليله ... كذلك الليل نهار الأديبْ
ينم فيه وينام الضحى ... تصاوناً عن كل أمر معيبْ
كأنما الليل حبيب له ... فهو إذا حل اكتسى كل طيبْ
كأنما الصبح رقيب له ... فيرعوي عند طلوع الرقيبْ
الند: المثل. والند: الطيب. والمسك: الجلد. قال أبو الوليد أكثر ما وصف من الخيري هذا النمام، وقلما ما وصف الأصفر وأنا ذاكر ما وقع إلي فيه:
[ الخيري الأصفر ]
من ذلك قول أبي عمر القسطلي:
أعاره النرجس من لونه ... تفضلاً وازداد من طيبهِ
وناسب النمام لما انتهى ... إلى اسمه الأدنى وتركيبهِ
وما يجري واحداً منهما ... إلا كبا في حين تقريبهِ
وأحسن من هذا قول الفقيه أبي الحسن بن علي وهو:
كأنما الخيري مستهتر ... بالحب قد أنحله العشقُ
صفرته تنطق عن حاله ... ورب حال دونها النطقُ
أعاره المزن رداء الندى ... وصفرة المتشح البرقُ
ما أوجه اللذات محجوبة ... إذا تبدى وجهه الطلقُ
وحين أحضرنا ما في الخيري الأزهر، نبدأ بالنرجس الأصفر.
[ النرجس الأصفر ]
قال الوزير أبو مروان عبد الملك بن جهور - رحمه الله - يصفه فأبدع وأعجب وأحسن وأغرب أنشدنيه له حفيده عبد الله، وهو:
واصفر حتى كأن الإلف يهجره ... وطاب حتى كأن المسك ينثرهُ
واخضر أسفله من تحت أصفره ... فراق منظره الباهي ومخبرهُ
يا نرجساً ظل قدامي تنم له ... ريح تذكرني شوقي فأذكرهُ
زمرد مائل من فوقه ذهب ... معين نابه منه ومحجرهُ
هيجت لي شجناً قد كان فارقني ... ذكرتني بالذي ما زلت أؤثرهُ
وكتب الوزير الكاتب أبو مروان بن الجزيري إلى المنصور أبي عامر - رحمهما الله - عن نرجس العامرية في أول يوم من كانون الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة فأبدع واخترع وهو:
حيتك يا قمر العلا والمجلس ... أزكى تحيتها عيون النرجسِ
زهراً تريك بشكلها وبلونها ... زهر النجوم الجاريات الكنسِ
طلعت مطالعها على مخضرة ... من سوقها كسيت برود السندسِ
فتزينت حسناً أتم تزين ... وتنفست طيباً ألذ تنفسِ
وملكن أفئدة الندامى كلما ... دارت بمجلسهم مدار الأكؤسِ
ملك الهمام العامري محمد ... للمكرمات وللنهى والأنفسِ
لبس الزمان وأهله من عهده ... وفعاله المشكور أكرم ملبسِ
فإذا ذهبت إلى الثناء فقفه من ... بين الأنام على علاه واحبسِ
ولأبي عمر القسطلي فيه قطعة بديعة تضمنت أوصافاً رفيعة، موصولة بمدح المظفر بن أبي عامر وهي:
شكلان من راح وروضة نرجس ... يتنازعان الشبه وسط المجلسِ
متباهيين تلوناً بتلون ... متباريين تنفساً بتنفسِ
فكأنها من حد سيفك تلتظي ... وكأنه من طيب خلقك يكتسي
يا من علا من رتبة في رتبة ... حتى غدا وسط النجوم الخنسِ
وابن الذين هداهم ونهاهم ... أدب الملوك وأسوة للمؤنسي
ومن أنفس ما ملح به في النرجس قطعة للوزير الكاتب أبي الأصبغ بن عبد العزيز وكان يلبس ثوباً رفيع القدر، نرجسي اللون، وهي:
رأيت عباداً له ملبس ... في حشوه الجود معاً والكرمْ
فقلت سبحان العزيز الذي ... أودع ذا الثوب رفيع الهممْ
أروع في سؤدده سابقاً ... أبيض مثل البدر بادي الشممْ
كأنما صفرة أثوابه ... وطيبها نرجسه إذ تشمْ
قد كنت يا نرجس من قبل ذا ... تبخس من حقك ما قد علمْ
فالآن فافخر في جميع الورى ... على النواوير وحاشاك ذمْ
بعز من قد حزت تشريفه ... وفضل من لا فارقته النعمْ
وأنشدني لنفسه الفقيه أبو الحسن بن علي في النرجس الكبير الذي تسميه العامة القادوسي تشبيهاً بالقادوس على لغتهم، وصوابه القدس أبياتاً رقاقاً تضمنت معاني دقاقاً موصوله بمدح الحاجب سراج الدين الثاقب وهي:
في النرجس القدسي النور والقصب ... حسن يفوق به تربيه في النسبِ
له من التبر كأس قاعه لحج ... موسع العلو قد أبداه للعجبِ
مشم طيب إذا استنشيت زهرته ... وظرف أنس إذا ما شئت للنخبِ
ومائل الجيد من سكر النعيم به ... حكى ثنى الثمل المشغوف باللعبِ
كغادة ثوبها من سندس طلعت ... للشرب في كفها كأس من الذهبِ
فكيف يعقل حظ النفس من طرب ... من كان يلحظ هذا الحسن من كثبِ
ثم دخل إلى المدح فقال:
يا حاجباً رقمت في الكتب سيرته ... بالحبر وانتقشت بالتبر في القضبِ
ويا عماداً له يوماً ندى ووغى ... ذا للأيادي وذا للبيض واليلبِ
إن دمت للعجم لم يعجم لها خبر ... وأعرب السعد بالإقبال للعربِ
قوله: حسن يفوق به تربيه يعني النرجس الأصفر المعروف، والنرجس المسمى بالبهار وقوله قاعه لحج اللحج: الضيق، ولم أر لأحد قبله في هذا الصنف من النرجس وصفاً، وهو معدوم عندنا بإشبيلية.. وكان كتب إلي مع هذه القطعة بيتين وهما:
اسأل أبا عامر عنه ابن مسلمة ... تسأل خبيراً بمعنى الظرف والأدبِ
إن صار قوم إلى قصف على مهل ... طواهم بخطا التقريب والخببِ
وقال صاحب الشرطة أبو بكر بن القوطية يصفه في أبيات وهي:
زبرجد فوقه نضار ... مخلص لم تذبه نارُ
كأنما هب من كراه ... وسنان أو شفه انكسارُ
وطاب عند المشم حتى ... للمسك من بينه انتشارُ
قد شارك الدهر فهو ليل ... وافاه من صبحه اصفرارُ
فأول الخلق منه ليل ... ومنتهى خلقه نهارُ
أبدعه في الرياض منش ... له على الخلقة اقتدارُ
شبه خضرة سوقه بسواد الليل، والخضرة والسواد عند العرب بمنزلة. ويقرب من معنى هذا القطعة ما أنشدنيه لنفسه فيه الفقيه أبو الحسن بن علي وهو:
أرى النرجس التبري يعنو له الفكر ... ويقصر عن أوضافه النظم والنثرُ
كأن الدجا قد صاغ خضرة ثوبه ... وألقى عليه حسن صفرته الفجرُ
تخال به في الروض أقيال معشر ... ثيابهم خضر وتيجانهم صفرُ
يحييك بالتأنيس رونق حسنه ... ويلقاك منه قبل رؤيته النشرُ
قال أبو الوليد: ولي قطعة في النرجس موصولة بمدح ذي الوزارتين عباد - وصل الله حرمته وأطال مدته - وهي:
وروض أريض لم يزل يغتذي بما ... يروح عليه من سحاب ويغتدي
بدا النرجس المصفر فيه مباهياً ... بلون كلون المستهام المسهدِ
ترى كل نور منه فوق قضيبه ... كلمة تبر فوق جيد زبرجدِ
إذا ما سرى منه نسيم لواله ... سرى عنه جلباب الجوى المتوقدِ
حكى منظراً نصراً وخبراً خلائق الن ... نجيب أبي عمرو سليل محمدِ
فداه عداه كم له من فضيلة ... وفضل ندى يغني به كل مجتدِ
قال أبو الوليد: هذا ما جمعته في النرجس، ويجب أن نبدأ بذكر الورد، ونورد ما وقع إلينا فيه من تمثيل حسن وتشبيه.
● [ للفصل الثالث بقية ] ●
كتاب : البديع في وصف الربيع
المؤلف : أبو الوليد الإشبيلي
منتدى ميراث الرسول - البوابة