بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الضحك والبكاء وحياة البخلاء
قصة أحمد بن خلف
ومن طياب البخلاء أحمد بن خلف اليزيدي. ترك أبوه في منزله يوم مات ألفي ألف درهم، وستمائة ألف درهم، وأربعين ومائة ألف دينار. فاقتسمها هو وأخوه حاتم قبل دفنه. وأخذ أحمد وحده ألف ألف وثلثمائة ألف درهم، وسبعين ألف دينار، ذهباً عيناً، مثاقيل وازنة جياداً، سوى العروض. فقلت له وقد ورث هذا المال كله: ما أبطأ بك الليلة، قال لا والله، إلا أني تعيشت البارحة في البيت، فقلت لأصحابنا: لولا أنه بعيد العهد بالأكل في بيته، وأن ذلك غريب منه، لما احتاج إلى هذا الاستثناء، وإلى هذه الشريطة. وأين يتعشى الناس إلا في منازلهم، وإنما يقول الرجل عند مثل هذه المسألة: لا والله، إلا أن فلاناً حبسني، ولا والله، إلا أن فلاناً عزم علي. فأما ما يستثنى ويشترط، فهذا ما لا يكون إلا على ما ذكرناه قبل.
وقال لي مبتدئاً مرة عن غير مشورة، وعن غير سبب جرى: انظر أن تتخذ لعيالك في الشتاء من هذه المثلثة؛ فإنها عظيمة البركة، كثيرة النزل. وهي تنوب عن الغداء. ولها نفخة تغني عن العشاء. وكل شيء من الأحساء، فهو يغني عن طلب النبيذ وشرب الماء. ومن تحسى الحار عرق. والعرق يبيض الجلد، ويخرج من الجوف. وهي تملأ النفس، وتمنع من التشهي. وهي أيضاً تدفئ، فتقوم لك في أجوافهم مقام فحم الكانون من خارج. وحسو طار يغني عن الوقود، وعن لبس الحشو. والوقود يسود كل شيء وييبسه. وهو سريع في الهضم، وصاحبه معرض للحريق، ويذهب في ثمنه المال العظيم. وشر شيء فيه أن من تعوده لم يدفئه شيء سواه. فعليك يا أبا عثمان بالمثلثة، واعلم أنها لا تكون إلا في منازل المشيخة وأصحاب التجربة. فخذها من حكيم مجرب، ومن ناصح مشفق.
وكان لا يفارق منازل إخوانه. وإخوانه مخاصيب مناويب، أصحاب نفح وترف. وكانوا يتحفونه ويدللونه، ويفكهونه ويحكمونه. ولم يشكوا أنه سيدعوهم مرة، وأن يجعلوا بيته نزهة ونشوة. فلما طال تغافله، وطالت مدافعته، وعرضوا له بذلك فتغافل، صرحوا له. فلما امتنع قالوا: اجعلها دعوة ليس لها أخت. فلما بلغ منه ومنهم المجهود، اتخذ لهم طعيماً خفيفاً، شهياً مليحاً، لا ثمن له ولا مؤنة فيه. فلما أكلوا وغسلوا أيديهم، أقبل عليهم فقال: أسألكم بالله الذي لا شيء أعظم منه، أنا الساعة أيسر وأغنى، أو قبل أن تأكلوا طعامي، قالوا: ما نشك أنك حين كنت والطعام في ملكك، أغنى وأيسر. قال: فأنا الساعة أقرب إلى الفقر، أم تلك الساعة، قالوا: بل أنت الساعة أقرب إلى الفقر. قال: فمن يلومني على ترك دعوة قوم قربوني من الفقر، وباعدوني من الغنى، وكلما دعوتهم أكثر كنت من الفقر أقرب، ومن الغنى أبعد? وفي قياسه هذا أن من رأيه أن يهجر كل من استسقاه شربة ماء، أو تناول من حائطه لبنة، ومن خليط دابته عوداً.
ومر بأصحاب الجداء، وذلك في زمان التوليد. فأطعمه الزمان في الرخص، وتحركت شهوته على قدر إمكانه عنده. فبعث غلاماً له يقال له ثقف؛ وهو معروف، ليشتري له جدياً. فوقف غير بعيد. فلم يلبث أن رجع الغلام يحضر، وهو يشير بيده، ويومئ برأسه: أن اذهب ولا تقف. فلم يبرح. فلما دنا منه قال: ويلك، تهزأ بي كأني مطلوب، قال: هذا أطرفه، الجدي بعشرة، أنت من ذي البابة، مر الآن، مرمر، فإذا غلامه يرى أن من المنكر أن يشتري جدي بعشرة دراهم، والجدي بعشرة إنما ينكر عندنا بالبصرة، لكثرة الخير، ورخص السعر. فأما في العساكر، فإن أنكر ذلك منكر، فإنما ينكره من طريق رخصه، وقلة ثمنه، لا لغير ذلك.
ولا تقولوا الآن: قد والله أساء أبو عثمان إلى صديقه، بل تناوله بالسوء حتى بدأ بنفسه. ومن كانت هذه صفته، وهذا مذهبه، فغير مأمون على جليسه. وأي الرجال المهذب، هذا والله الشيوع والتبوع، والبذاء وقلة الوفاء.
اعلموا أني لم ألتمس بهذه الأحاديث عنه إلا موافقته، وطلب رضاه ومحبته. ولقد خفت أن أكون عند كثير من الناس دسيساً من قبله، وكميناً من كمائنه. وذلك أن أحب الأصحاب إله أبلغهم قولاً في إياس الناس مما قبله، وأجودهم حسماً لأسباب الطمع في ماله.
على أني إن أحسنت بجهدي، فسيجعل شكري موقوفاً. وإن جاوز كتابي هذا حدود العراق شكر، وإلا أمسك. لأن شهرته بالقبيح عند نفسه في هذا الإقليم، قد أغنته عن التنويه والتنبيه على مذهبه. وكيف وهو يرى أن سهل بن هارون وإسماعيل بن غزوان كانا من المسرفين، وأن الثوري والكندي يستوجبان الحجر.
وبلغني أنه قال: لو لم تعرفوا من كرامة الملائكة على الله إلا أنه لم يبتلهم بالنفقة، ولا بقول العيال: هات، لعرفتم حالهم ومنزلتهم.
وحدثني صاحب لي قال: دخلت على فلان بن فلان، وإذا المائدة موضوعة بعد، وإذا القوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم. فمددت يدي لآكل، فقال: أجهز على الجرحى، ولا تتعرض للأصحاء، يقول: اعرض للدجاجة التي قد نيل منها، وللفرخ المنزوع الفخذ. فأما الصحيح فلا تتعرض له. وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، وأصابه بعض المرق.
وقال لي الرجل: أكلنا عنده يوماً، وأبوه حاضر، وبني له يجيئ ويذهب. فاختلف مراراً. كل ذلك يرانا نأكل. فقال الصبي: كم تأكلون، لا أطعم الله بطونكم، فقال أبوه، وهو جد الصبي: ابني ورب الكعبة، وحدثني صاحب مسلحة باب الكرخ، قال: قال لي صاحب الحمام: ألا أعجبك من صالح بن عفان، كان يجئ كل سحر، فيدخل الحمام. فإذا غبت عن إجانة النورة مسح أرفاغه. ثم يتستر بالمئزر. ثم يقوم فيغسله في غمار الناس. ثم يجئ بعد في مثل تلك الساعة، فيطلي ساقيه وبعض فخذيه. ثم يجلس ويتزر بالمئزر. فإذا وجد غفلة غسله. ثم يعود في مثل ذلك الوقت، فيمسح قطعة أخرى من جسده. فلا يزال يطلي في كل سحر، حتى ذهب مني بطلية.
قال: ولقد رأيته وإن في زيق سراويله نورة. وكان لا يرى الطبخ في القدور الشامية، ولا تبريد الماء في الجرار المذارية؛ لأن هذه ترشح، وتلك تنشف.
حدثني أبو الجهجاه النوشرواني، قال: حدثني أبو الأحوص الشاعر، قال: كنا نفطر عند الباسياني. فكان يرفع يديه قبلنا، ويستلقي على فراشه، ويقول: ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ).
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ
ومن طياب البخلاء أحمد بن خلف اليزيدي. ترك أبوه في منزله يوم مات ألفي ألف درهم، وستمائة ألف درهم، وأربعين ومائة ألف دينار. فاقتسمها هو وأخوه حاتم قبل دفنه. وأخذ أحمد وحده ألف ألف وثلثمائة ألف درهم، وسبعين ألف دينار، ذهباً عيناً، مثاقيل وازنة جياداً، سوى العروض. فقلت له وقد ورث هذا المال كله: ما أبطأ بك الليلة، قال لا والله، إلا أني تعيشت البارحة في البيت، فقلت لأصحابنا: لولا أنه بعيد العهد بالأكل في بيته، وأن ذلك غريب منه، لما احتاج إلى هذا الاستثناء، وإلى هذه الشريطة. وأين يتعشى الناس إلا في منازلهم، وإنما يقول الرجل عند مثل هذه المسألة: لا والله، إلا أن فلاناً حبسني، ولا والله، إلا أن فلاناً عزم علي. فأما ما يستثنى ويشترط، فهذا ما لا يكون إلا على ما ذكرناه قبل.
وقال لي مبتدئاً مرة عن غير مشورة، وعن غير سبب جرى: انظر أن تتخذ لعيالك في الشتاء من هذه المثلثة؛ فإنها عظيمة البركة، كثيرة النزل. وهي تنوب عن الغداء. ولها نفخة تغني عن العشاء. وكل شيء من الأحساء، فهو يغني عن طلب النبيذ وشرب الماء. ومن تحسى الحار عرق. والعرق يبيض الجلد، ويخرج من الجوف. وهي تملأ النفس، وتمنع من التشهي. وهي أيضاً تدفئ، فتقوم لك في أجوافهم مقام فحم الكانون من خارج. وحسو طار يغني عن الوقود، وعن لبس الحشو. والوقود يسود كل شيء وييبسه. وهو سريع في الهضم، وصاحبه معرض للحريق، ويذهب في ثمنه المال العظيم. وشر شيء فيه أن من تعوده لم يدفئه شيء سواه. فعليك يا أبا عثمان بالمثلثة، واعلم أنها لا تكون إلا في منازل المشيخة وأصحاب التجربة. فخذها من حكيم مجرب، ومن ناصح مشفق.
وكان لا يفارق منازل إخوانه. وإخوانه مخاصيب مناويب، أصحاب نفح وترف. وكانوا يتحفونه ويدللونه، ويفكهونه ويحكمونه. ولم يشكوا أنه سيدعوهم مرة، وأن يجعلوا بيته نزهة ونشوة. فلما طال تغافله، وطالت مدافعته، وعرضوا له بذلك فتغافل، صرحوا له. فلما امتنع قالوا: اجعلها دعوة ليس لها أخت. فلما بلغ منه ومنهم المجهود، اتخذ لهم طعيماً خفيفاً، شهياً مليحاً، لا ثمن له ولا مؤنة فيه. فلما أكلوا وغسلوا أيديهم، أقبل عليهم فقال: أسألكم بالله الذي لا شيء أعظم منه، أنا الساعة أيسر وأغنى، أو قبل أن تأكلوا طعامي، قالوا: ما نشك أنك حين كنت والطعام في ملكك، أغنى وأيسر. قال: فأنا الساعة أقرب إلى الفقر، أم تلك الساعة، قالوا: بل أنت الساعة أقرب إلى الفقر. قال: فمن يلومني على ترك دعوة قوم قربوني من الفقر، وباعدوني من الغنى، وكلما دعوتهم أكثر كنت من الفقر أقرب، ومن الغنى أبعد? وفي قياسه هذا أن من رأيه أن يهجر كل من استسقاه شربة ماء، أو تناول من حائطه لبنة، ومن خليط دابته عوداً.
ومر بأصحاب الجداء، وذلك في زمان التوليد. فأطعمه الزمان في الرخص، وتحركت شهوته على قدر إمكانه عنده. فبعث غلاماً له يقال له ثقف؛ وهو معروف، ليشتري له جدياً. فوقف غير بعيد. فلم يلبث أن رجع الغلام يحضر، وهو يشير بيده، ويومئ برأسه: أن اذهب ولا تقف. فلم يبرح. فلما دنا منه قال: ويلك، تهزأ بي كأني مطلوب، قال: هذا أطرفه، الجدي بعشرة، أنت من ذي البابة، مر الآن، مرمر، فإذا غلامه يرى أن من المنكر أن يشتري جدي بعشرة دراهم، والجدي بعشرة إنما ينكر عندنا بالبصرة، لكثرة الخير، ورخص السعر. فأما في العساكر، فإن أنكر ذلك منكر، فإنما ينكره من طريق رخصه، وقلة ثمنه، لا لغير ذلك.
ولا تقولوا الآن: قد والله أساء أبو عثمان إلى صديقه، بل تناوله بالسوء حتى بدأ بنفسه. ومن كانت هذه صفته، وهذا مذهبه، فغير مأمون على جليسه. وأي الرجال المهذب، هذا والله الشيوع والتبوع، والبذاء وقلة الوفاء.
اعلموا أني لم ألتمس بهذه الأحاديث عنه إلا موافقته، وطلب رضاه ومحبته. ولقد خفت أن أكون عند كثير من الناس دسيساً من قبله، وكميناً من كمائنه. وذلك أن أحب الأصحاب إله أبلغهم قولاً في إياس الناس مما قبله، وأجودهم حسماً لأسباب الطمع في ماله.
على أني إن أحسنت بجهدي، فسيجعل شكري موقوفاً. وإن جاوز كتابي هذا حدود العراق شكر، وإلا أمسك. لأن شهرته بالقبيح عند نفسه في هذا الإقليم، قد أغنته عن التنويه والتنبيه على مذهبه. وكيف وهو يرى أن سهل بن هارون وإسماعيل بن غزوان كانا من المسرفين، وأن الثوري والكندي يستوجبان الحجر.
وبلغني أنه قال: لو لم تعرفوا من كرامة الملائكة على الله إلا أنه لم يبتلهم بالنفقة، ولا بقول العيال: هات، لعرفتم حالهم ومنزلتهم.
وحدثني صاحب لي قال: دخلت على فلان بن فلان، وإذا المائدة موضوعة بعد، وإذا القوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم. فمددت يدي لآكل، فقال: أجهز على الجرحى، ولا تتعرض للأصحاء، يقول: اعرض للدجاجة التي قد نيل منها، وللفرخ المنزوع الفخذ. فأما الصحيح فلا تتعرض له. وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، وأصابه بعض المرق.
وقال لي الرجل: أكلنا عنده يوماً، وأبوه حاضر، وبني له يجيئ ويذهب. فاختلف مراراً. كل ذلك يرانا نأكل. فقال الصبي: كم تأكلون، لا أطعم الله بطونكم، فقال أبوه، وهو جد الصبي: ابني ورب الكعبة، وحدثني صاحب مسلحة باب الكرخ، قال: قال لي صاحب الحمام: ألا أعجبك من صالح بن عفان، كان يجئ كل سحر، فيدخل الحمام. فإذا غبت عن إجانة النورة مسح أرفاغه. ثم يتستر بالمئزر. ثم يقوم فيغسله في غمار الناس. ثم يجئ بعد في مثل تلك الساعة، فيطلي ساقيه وبعض فخذيه. ثم يجلس ويتزر بالمئزر. فإذا وجد غفلة غسله. ثم يعود في مثل ذلك الوقت، فيمسح قطعة أخرى من جسده. فلا يزال يطلي في كل سحر، حتى ذهب مني بطلية.
قال: ولقد رأيته وإن في زيق سراويله نورة. وكان لا يرى الطبخ في القدور الشامية، ولا تبريد الماء في الجرار المذارية؛ لأن هذه ترشح، وتلك تنشف.
حدثني أبو الجهجاه النوشرواني، قال: حدثني أبو الأحوص الشاعر، قال: كنا نفطر عند الباسياني. فكان يرفع يديه قبلنا، ويستلقي على فراشه، ويقول: ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ).
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ